عبداللطيف البوني يكتب: جدل الهوية

(1)

نحن في السودان نعرف أولوياتنا فهي السلام والتنمية والديمقراطية والوحدة الوطنية، ولكن لدينا مشكلة في ترتيب هذه الأولويات إذ أننا نظن ان الترتيب يعني التفضيل، فمثلا لو اتفقنا على ان الأولوية للسلام نقوم بإهمال المطلوبات الأخرى اذ نندفع نحوه ونرخي بقية الأولويات، فمثلا في نيفاشا وضعنا السلام في كفة والوحدة في كفة فضحينا بالوحدة فجاء السلام منقوصا فانهار وأصبحنا فاقدين للاثنين السلام والوحدة.
والآن نحن في سعينا للسلام نتجاهل النواحي الاقتصادية فتسوء وينهار الجنيه وتقوم الدنيا وينهار كل شيء بما في ذلك محاولات جلب السلام، في حين أنه كان يمكن أن يمضي تنفيذ تلك المهام اي الأولويات على التوازي ويكون التقديم والتأخير في الجزئيات وليس في الكليات. أما اذا سئلت عن رأيي الشخصي فإن أهم مطلوبات الساعة بالنسبة لنا هو تحسين الوضع الاقتصادي لأنه ثبت انه هو الذي يأتي بالسلام ويثبت الديمقراطية ويزيل شبح تهديد الوحدة، والأهم انه مقدور عليه، والذي أقصده ان الوضع الاقتصادي رغم أهميته فان العمل على تحسينه سيكون وسيلة لتحقيق الأولويات الأخرى. وهذا الموضوع نعود إليه لاحقا إن شاء الله.

(2)
كما يقولون هنية من أصبح على همه القديم، فنحن في السودان وكان البشتنة في الأولويات الأربع المشار اليها أعلاه لم تكفنا؛ صبحت لدينا أولوية خامسة فرضت علينا برعونة وممن تولى أمرنا وهو يجهل ما يقوم به، أقصد بذلك جدل الهوية ويتجلى ذلك فيما كان مطروحا بين توجهات السودان عربية ام أفريقية، لغة السودان الرسمية ودينه الرسمي وتطور ذلك الجدل ليصبح الآن علاقة الدين بالدولة فصلا أم وصلا.
قد يكون جدل الهوية موجودا في كل الدنيا فكل البلاد تتنازعها الهويات لان الهوية مسألة نسبية وهي غير مستقرة ولا يوجد لها تعريف إيجابي، إنما تعرف بالسلب دوما لأنها تعني ليس الموجود فيك إنما الذي يميزك عن غيرك، فبدلا من ان تبحث عما يجمعك بالآخر فأنت تبحث عما يميزك عن الآخر، ولكن في كل الدنيا تضع الشعوب جدل الهوية في الإطار النظري ثم تمضي في انجاز مهامها الوجودية الأخرى لكن في السودان غرقنا في شبر جدل الهوية إلا قل لي بربك في هذا الظرف الحرج الذي نعيش فيه الآن كيف تكون قضيتنا الأولى هي مسألة علاقة الدين بالدولة؟

(3)
ثورة أكتوبر 1964 هي التي فجرت جدل الهوية في السودان فقبلها كان هذا الجدل محصورا في الإطار الأكاديمي والنظري البحت، أما عامة الشعب وجهاز الدولة كانا منصرفين نحو أهدافهما الوجودية، فأكتوبر لم تكن ثورة جياع فالحالة الاقتصادية يومها كانت عال العال؛ إنما ثورة فكر لذلك انبثق منها ذلك الجدل فأصبح بندا من بنود السياسة، فكان الجدل حول الدستور هل يكون دستورا إسلاميا أم دستورا عاديا (علماني هذه ظهرت فيما بعد) فحسم النميري ذلك الجدل بدبابة في 25 مايو1969 عندما قال جئت لأمزق هذه الوريقة الصفراء المسماة دستور إسلامي، ولكن ذات النميري هو الذي خوزق البلاد فيما بعد بتطبيق قوانين سبتمبر 1983 التي صار بها إماما للمسلمين ومضى بذلك لحتفه، ثم جاء البشير ليحيي مواتها؛ فنظر الرافضون لها لجون قرنق ليخلصهم منها فكانت نيفاشا وكان الانفصال وكان المؤمل أن تكون ثورة ديسمبر المجيدة متسامية فوق جدل الهوية الأخرق، فهاهو الحلو يظهر ببندقيته ليكون قرنق جديدا لينفاشا جديدة وانفصالا جديدا، خليكم معنا إن شاء الله.

 

صحيفة السوداني

Exit mobile version