محمد لطيف يكتب: القبائل تنتفض .. إذن لم تسقط بعد ..!

(هذه التطورات المؤسفة من صراعات مسلحة في مجمل الجسد السوداني، تبدو ناتجة عن عدد من العوامل، ولعل أهمها ما يشهده السودان من مرحلة انتقال سياسي، تتسم بالسيولة الشديدة، تسعى فيها الأطراف المحسوبة على الإسلام السياسي عامة، وحزب المؤتمر الوطني خاصة، إلى إرباك، بل ومحاولة إضعاف الحكومة الانتقالية خصوصاً وأنها تملك وسائل ذلك عبر وجودها في مستويات الحكم الولائي والمحلي لثلاثة عقود على الأقل، وتملك علاقات على الأرض مقاومة لأي تغيير يصبّ في صالح النظام الجديد، ونظراً لافتقاد هذه القوى لخطاب سياسي يستطيع أن يؤثر في المجال العام، بعد أن ثبت فساد نخبه السياسية، على المستويين الفكري العقائدي، والمالي ذي الأبعاد الأخلاقية، فإنهم مضطرون على ما يبدو إلى استخدام الورقة القبلية حتى يستطيعوا الوصول لهدفهم الاستراتيجي في إضعاف النظام وإنهاء الفترة الانتقالية، للوصول إلى محطة الانتخابات المبكرة التي يملكون أدواتها في هذه اللحظة من قدرات تمويلية وعلاقات على الأرض، وربما علاقات إقليمية )
هذه مقدمة مبحث أعدته الدكتورة أماني الطويل الباحثة في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية إلى جانب كونها متخصصة في الشأن السوداني منذ عدة عقود .. وما أوردته أعلاه .. للأسف .. يلخص المشهد كأفضل ما يكون .. ورغم ذلك نتعامل معها كمراقب خارجي يتعاطى مع المعطيات المطلة أمامه .. فيما نرى أن على عاتق السودانيين يقع أمر مختلف تماماً .. السودانيون قبل انفصال الجنوب كانوا يتوزعون على نحو نيفٍ وخمسمائة وسبعين إثنية .. أما الآن فهم يتوزعون على أربعمائة إثنية بالتمام والكمال .. فلك أن تتصور عزيزي القارئ .. لو ان دستورنا قد نص على أن تكون القبيلة هي أساس الحقوق والواجبات فى السودان .. بالطبع كان سيكون ذلك جنونا ما بعده جنون .. ورغم أن مشرعينا فى مختلف العهود والحقب قد انتبهوا إلى خطورة أن تكون القبيلة هي أساس الحقوق والواجبات .. فسارعوا إلى النص على أن .. المواطنة هى أساس الحقوق والواجبات .. راجع دستور السودان الانتقالي 1985 .. ثم دستور السودان الانتقالي 2005 .. ثم الوثيقة الدستورية 2019 .. ورغم ذلك فإن المفارقة ظلت أن الممارسة تؤكد دائما أن القبيلة هى أساس الحقوق والواجبات .. بل وأحيانا تكون القبيلة هى مصدر السلطات .. لقد سال مداد كثيف وأطلقت عبارات وخطب ونداءات .. تندد بنهج الإنقاذ في الإعلاء من شأن القبيلة .. ثم تأجيج الصراع القبلي هنا وهناك .. فى ردة بائنة لم تكن تخطئها عين ..!
نقول ردة .. لأن تطور السودان السياسي كان قد مضى أشواطا بعيدة فى تجاوز القبلية والجهوية والمناطقية .. وهذا جهد بدأ منذ القرن الماضى .. حين ظهرت الطائفية .. على علاتها في رأي البعض .. ولكنها كانت الترياق المضاد للتشظي القبلي فأصبحت للسودانيين بوتقات أخرى تجمعهم وتوحد وجدانهم .. غير القبائل .. فكانت نقلة نوعية مهمة .. فى مسار صياغة النسيج القومي .. لتظهر بعد ذلك الأحزاب السياسية .. كأوعية طبيعية لاستيعاب النشاط السياسي للسودانيين .. ثم ظهرت الأنظمة العسكرية لتقصم ظهر ذلك التطور في كل حين .. ولكن حقبة الإنقاذ تظل هي الأسوأ بلا شك .. لثلاثة اسباب رئيسة .. الأول طول أمد النظام .. ثم العنف المفرط في محاصرة الأحزاب السياسية مع السعي الممنهج لتحطيمها .. و إلا فتفتيتها وذلك أضعف الإيمان .. أما السبب الثالث فقد تزامن مع السبب الثاني .. وهو استنهاض النعرات القبلية أولا .. ثم استثارة تلك النعرات لتصطدم ببعضها البعض .. وذلك بعد تحويلها من مجرد حواضن إثنية .. إلى مناط الفعل السياسي .. بل ومصدر منح ومنع السلطة فى كثير من الأنحاء والأحيان ..!
كانت تلك ردة كاملة .. ولكن الأسوأ منها .. أن نكتشف بعد سقوط النظام .. أننا ما زلنا نحتفظ بأسوأ ما فعل .. ألا وهو أن تكون القبيلة هي مصدر السلطة ووعاء الممارسة السياسية .. إذن لم تسقط بعد ..!

 

 

 

 

 

صحيفة السوداني

Exit mobile version