الفاتح جبرا يكتب: خطبة الجمعة

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

هُنَالِكَ فَرْقٌ بَيْنَ أُسْرَةٍ َتَحُلُّ مُشْكِلَاتِهَا الْبَيْتِيَّةَ بِتَحَاوُرِ أَفْرَادِهَا، وَمُنَاقَشَةِ أَهْلِهَا لِشُؤُونِهَا، وَبَيْنَ أُسْرَةٍ لَا تَعْرِفُ لُغَةَ الْحِوَارِفلا يقدم أحد منها ُ عَلَى عَمَلِ إلا من خلال رَأْيِهِ الْخَاصِّ وَلَا يَبْحَثُ عَنْ حَلِّ مُشْكِلَاتِهِ إِلَّا خَارِجَ بَيْتِها والفرق بين الأسرتين جد كبير.

إِنَّ الْحِوَارَ الْأُسَرِيَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَبَادَلَ أَفْرَادُ الْأُسْرَةِ وِجْهَاتِ النَّظَرِ فِي قَضِيَّةٍ مِنَ الْقَضَايَا، وَتُطْرَحَ الْآرَاءُ حَوْلَهَا، لِتَتَّضِحَ الحلول لهذه القضية أَثْنَاءَ الْحِوَارِوالنقاش ،

والحوار أيها الأحبة قِيمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ؛ وَلِذَلِكَ اعْتَنَى بِهَا الْقُرْآنُ أَيَّمَا عِنَايَةٍ، وَذَكَرَ نَمَاذِجَ كَثِيرَةً مِنَ الْحِوَارِ، وَمِنْهَا الْحِوَارُ الْأُسَرِيُّ؛ كَحِوَارِ نُوحٍ مَعَ ابْنِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَحِوَارِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَعَ أَبِيهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِسُلُوكِ هَذَا الطَّرِيقِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، وَسَمَّاهُ مُجَادَلَةً بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَقَالَ -تَعَالَى- في الآية 125 من سورة النحل : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

أيها الأحبة :

إِنَّ الْحِوَارَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أُسْلُوبًا نَسْتَخْدِمُهُ دَاخِلَ الْأُسَرِ وَالْمَدَارِسِ مِنْ أَجْلِ تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ وَتَعْلِيمِهِمْ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أُسْلُوبَ حَيَاةٍ، يَسُودُ فِي الْأُسْرَةِ وَالْمَدْرَسَةِ وَالْمَسْجِدِ وَوَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَفِي الشَّرِكَةِ وَالْمُؤَسَّسَةِ وَالدَّائِرَةِ الْحُكُومِيَّةِ… إِنَّ الْحِوَارَ لحَيَوِيٌّ لِلْجَمِيعِ، وَإِنَّ غِيَابَهُ عَنْ حَيَاتِنَا سَوْفَ يُؤْذِي الْجَمِيعَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَدِيلَ سَيِّئٌ جِدًّا، وَهُوَ كَثِيرًا مَا يُكَوِّنُ الْقَهْرَ وَالْكَبْتَ وَالِانْعِزَالَ وَالْأَنَانِيَّةَ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى، وَتَصَلُّبَ الذِّهْنِ، وَمَحْدُودِيَّةَ الرُّؤْيَةِ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ.

عبَادَ اللهِ:

إِنَّ بَعْضَ بُيُوتِنَا تُعَانِي مُشْكِلَةَ الْبُعدِ الْحِوَارِيِّ، أَوْ ضَعْفَ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي مُعَالَجَةِ الْمُعْضِلَاتِ، أَوْ بِنَاءِ شَخْصِيَّاتِ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ عَوَائِقَ مَنَعَتْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْقَنَاعَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْحِوَارِ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْعَوَائِقِ الْحَائِلَةِ دُونَ الْحِوَارِ الْأُسَرِيِّ:
•ضَعْفُ الْمَعْرِفَةِ بِفَائِدَةِ الْحِوَارِ وَآدَابِهِ وَأَسَالِيبِهِ؛ إِذْ يَعْتَقِدُ بَعْضُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَزْوَاجِ أَنَّ عِلَاجَ الْمُشْكِلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالصَّرَامَةِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُجَرَّدَةِ
•اعْتِقَادُ بَعْضِ الْأَوْلَادِ أَنَّ الآبَاءَ إِمَّا أَنَّهُمْ لَا يُهِمُّهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا مُشْكِلَاتِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ فَهْمَهَا، أَوْ أَنَّهُمْ -حَتَّى إِنْ فَهِمُوهَا- لَيْسُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِتَعْدِيلِ مَوَاقِفِهِمْ!.

وَالْعِلَاجُ لِهَذِهِ الْعَوَائِقِ أيها الأحبة يَكُونَ باقْتِنَاعٌ الجميع بِأَهَمِّيَّةِ الْحِوَارِ الْأُسَرِيِّ وَآثَارِهِ الْحَمِيدَةِ، وَأَنْ يسعى الكل لِمَعْرِفَةِ بَعْضِ آدَابِهِ وَأَسَالِيبِهِ، وَسِمَاتِهِ، وَمِن ثمَّ تتم ممارسته دَاخِلَ الْأُسْرَةِ فِي الْأَوْقَاتِ المناسبة .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ الْحِوَارَ النَّاجِحَ لَهُ سِمَاتٌ تُمَيِّزُهُ؛ فَمِنْ تِلْكَ السِّمَاتِ:
•الْقَنَاعَةُ بِأَنَّ لِلْوَاحِدِ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ الْحَقَّ فِي أَنْ يُدَافِعَ عَنْ قَنَاعَاتِهِ؛ فَتُعْطَى لَهُ الْفُرْصَةُ لِيُدْلِيَ بِمَا لَدَيْهِ، ثُمَّ يُحْكُمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا عِنْدَهُ.
•أَنْ يُوقِنَ جَمِيعُ الْمُتَحَاوِرِينَ أَنَّهُمْ مَهْمَا بَلَغُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالذَّكَاءِ، فَهُنَاكَ ثَغَرَاتُ قُصُورٍ يُمْكِنُ سَدَّهَا بِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ التَّحَاوُرِ؛ فَالْإِنْسَانُ ضَعِيفٌ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا).
•أَنْ يُوَطِّنَ كُلُّ شَخْصٍ نَفْسَهُ عَلَى قَبُولِ النَّقْدِ.
•اعْتِدَالُ الصَّوْتِ؛ فَرَفْعُ الصَّوْتِ لَا يُحِقُّ حَقًّا، وَلَا يُبْطِلُ بَاطِلاً.
•حسْنُ الِاسْتِمَاعِ، وَالِاهْتِمَامُ بِكَلَامِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَعَدَمُ الِاسْتِئْثَارِ بِالْحَدِيثِ

عِبَادَ اللهِ:

إن وجود الحوار الأسري الذي يقوم على أسس صحيحة له فوائد وآثار لا حصر لها منها :
•يسَاعِدُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْأَخْطَاءِ، وَيُعِينُ عَلَى تَرْكِهَا، وَيُشَجِّعُ رُوحَ النَّقْدِ الذَّاتِيِّ فِي الْإِنْسَانِ لِمُرَاجَعَةِ أَفْكَارِهِ وَخِبْرَاتِهِ بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ، وَيُحَجِّمُ الْخِلَافَ فِي الْعَدِيدِ مِنَ الْأُمُورِ، وَيُزِيلُ سُوءَ الْفَهْمِ وَسُوءَ التَّقْدِيرِ وَسُوءَ الظَّنِّ الَّذِي يَسُودُ فِي حَالَاتِ التَّدَابُرِ وَالتَّجَافِي، وَهَذَا يُمَهِّدُ الطَّرِيقَ لِلتَّعَاوُنِ.
•يُنَمِّي دَاخِلَ الْأُسْرَةِ عَقْلَ الطِّفْلِ وَمَعَارِفَهُ، وَيُوَسِّعُ مَدَارِكَهُ، وَيَزِيدُ مِنْ نَشَاطِهِ فِي الْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقَ الْأُمُورِ، وَمُجْرَيَاتِ الْحَوَادِثِ وَالْأَيَّامِ، وَإِنَّ تَدْرِيبَ الطِّفْلِ عَلَى الْمُنَاقَشَةِ وَالْحِوَارِ يُرْقِي الْوَالِدَيْنِ إِلَى قِمَّةِ التَّرْبِيَةِ وَالْبِنَاءِ؛ إِذْ عِنْدَهَا يَسْتَطِيعُ الطِّفْلُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ حُقُوقِهِ، وَبِإِمْكَانِهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أُمُورٍ لَمْ يُدْرِكْهَا.
•يكون جِسْراٌ لِتَحْسِينِ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ، وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بل بين الجميع .

أيها الأحبة :

بِمِقْدَارِ إِجَادَتِنَا لِفُنُونِ الْحِوَارِ يَكُونُ نَجَاحُنَا وَتَمَيُّزُنَا فِي عَلَاقَاتِنَا وَاتِّصَالِنَا بِالْآخَرِينَ، وَبِقَدْرِ اسْتِعْمَالِنَا لِلْحِوَارِ دَاخِلَ أُسَرِنَا يَكُونُ نَجَاحُنَا فِي إِدَارَتِهَا، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ لِأُسَرِنَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَشَرِ.

 

صحيفة الجريدة

Exit mobile version