رأيناهد قرناص

د . ناهد قرناص تكتب:من أين أتى هؤلاء؟

 

العبارة التي أطلقها عبقري الرواية العربية الراحل الطيب صالح قبل سنوات وسارت بها الركبان ..كان تساؤله منطقياً ..عندما ظهرت أخلاق غير الأخلاق ..وتعاملات غير تلكم التي نعرفها … ليس فقط في أعراف السودانيين وخصالهم الحميدة ..بل في معتقدات العالم بأسره ..العبارة أعلاه أطلقت قبل أن تظهر ممارسات غريبة صارت ديدناً لا يثير التعجب ولا الاستنكار ..بل استشرى ووصل حد الاعتياد ولله الأمر من قبل ومن بعد.

لو كنتم تعتقدون أن العبارة أعلاه تعني فقط النظام البائد ..فذلك هو الوهم بعينه ..فالنظام رحل وبقيت تلك السنن التي استنها واتبعها البقية دون تفكير …أسمع معي القصة التالية ..واستبق دمعك للنهاية ..فالدموع يا صديقي لا تقدم ولا تؤخر ..طفل صغير ..يعاني من ضيق التنفس وفي حوجة للأكسجين ..يسرع به أهله إلى مستشفى حكومي حيث يصدمون بحقيقة عدم توفر جهاز للتنفس الصناعي (قول واحد ) ..يذهب به أهله لمستشفى علياء ..يشترط المستشفى على الأسرة وضع 120 مليون تحت الحساب قبل أن يوضع الطفل في جهاز التنفس (قول 2) ..أسقط في يد الأسرة ..سارعوا به إلى مستشفى تبارك للأطفال ..كانوا أرحم قليلاً ..ماقصروا فقد طلبوا فقط 70 مليون تحت الحساب قبل وضع الطفل في جهاز التنفس ..(قول 3 ) واسترجع وحوقل معي ..ففي خضم الحيرة والتعب والبحث عن مغيث ..أخذ الله وديعته ..وصعدت روح الطفل إلى بارئها وهو يبحث عن الأكسجين ..

إن كانت المستشفيات الحكومية قد أضحت قاعاً صفصفاً ..تفتقر حتى إلى جهاز التنفس الاصطناعي ..ويطلبون منك كل شئ حتى الشاش والقطن ..وحال مبانيها يغني عن سؤالها ..ولا يبدو أن هناك حل يلوح في الأفق ..وموت طفل صار لا يشكل معضلة ..ولا يستوقف أحداً ..فهو ليس الوحيد ..ولن يكون الأخير ..يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بالضرورة: حتى متى سيظل هذا حال المؤسسات الحكومية ؟ حتى متى سيظل الذهاب إلى مستشفى حكومي بمثابة تقديم الأوراق لتأشيرة الخروج من الدنيا؟

جورج فلويد مات تحت أقدام أحد أعضاء الشرطة في الولايات المتحدة ..فقامت الدنيا ولم تقعد ..ولا تزال التظاهرات تنتظم في كل أنحاء العالم لأجله ..فلويد كان فرداً واحداً ..تحركت الدنيا بأسرها لأجله ..و الصغار يقضون نحبهم في بلادنا ولا بواكي لهم ..أطفالنا يلفظون أنفاسهم لأن أصحاب المؤسسات العلاجية لا يرفعون أقدامهم عن أعناقنا ..فقل لي بربك من أين أتى هؤلاء حقاً؟ وهل ذهب القائمون على أمر تلك المؤسسات إلى بيوتهم وناموا ملء جفونهم في ذلك اليوم ؟ ولم تطاردهم صور ذلك الطفل ويأس أبيه وحزن أمه ؟ حتى متى تستمر أقدام هؤلاء على رقابنا وتمنع عنا الأكسجين ؟ حتى متى سنظل نقولها بصوت فلويد وحشرجة الموت تحاصرنا (..إننا لا نستطيع التنفس).

لو كنت مكان وزير الصحة لطالبت باستصدار قانون يلزم أي مؤسسة علاجية بقبول أي حالة طارئة تستوجب إنقاذ الحياة ..وأي مؤسسة تخالف ذلك يمكن مقاضاتها ويتم نزع ترخيصها ولا يسمح لها بممارسة العمل ..لا يجب أن يتم ترك إنقاذ الحياة لتقدير الأشخاص ..أنظر كم فقدنا من أرواح جراء ذلك ..قصص توجع القلب ..لكننا في كل مرة نكتفي بإبداء الأسف والقاء اللوم على غياب الإنسانية ..أتضح فعلاً ان هؤلاء ليسوا ببشر ..ولا يجب أن نتوقع منهم التعاطف وتقدير الحالة …يجب أن يكون هناك قانون رادع ..يمنع المؤسسات العلاجية الخاصة من التجارة بحياة الناس ..قانون يغلق المؤسسة ويفضحها على رؤوس الأشهاد ..قانون يرفع أقدامهم عن رقابنا ..ويسمح لنا بتنفس الهواء …

ويا عصفور الجنة الذي قضى نحبه من أجل جرعة اكسجين ..أغفر لنا يا صغيري ..وأنت الآن عند مليك مقتدر ، أرحم منا بك ..فليربط الله على قلب أمك ..وأبيك ..أما ذنبك فهو في رقابنا جميعاً إلى يوم الدين ..إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

صحيفة الجريدة

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى