حوارات

د.إبراهيم دقش ود. بخيتة أمين: تزوجنا بسلفية من بنك الشعب.. اشتغلت عتالي في لندن

عندما قررت أن أُجري هذ الحوار، كانت تدور في خاطري احتمالات عدة، كيف لي أن ألتقيهما في توقيتٍ واحد وأنا أجهل تماماً طبيعة المواقيت في حياتهما، وسؤال آخر كان يدور ولكنه دون أن أجد له اجابة، ما الذي يمكنني أن أخرج به من هذا اللقاء بعيداً عن تجربتهما في الصحافة؟ د.بخيتة أمين ود. إبراهيم دقش اسمين بارزين في الصحافة السودانية، التي وضعوا فيها بصمات خالدة وتجارب حق لنا أن نتوقف عندها ونستصحبها في مسيرتنا الصحافية.
وعند وصولي إلى محطة ود البنا بحي أب روف الأمدرماني العريق الذي يجاور النيل من الناحية الغربية، أو كما يطلق عليه ساكنوه (أب روف تحت البحر) قفزت إلى ذهني حكايات وروايات أدبية وفنية ورياضية كان مسرحها هذ الحي القديم، فكان الشاعر محمد بشير عتيق، والرائد المسرحي خالد أبوالروس، وآل السراج، سكسك، وآل البنا، وغيرهم من الذين أسهموا في تشكيل هذا التاريخ الأمدرماني الماثل.
العفوية والتلقائية التي قابلوا بها أسألتي الأولى، حفزتني أكتر للتحدث عن كل شيء يخصمها، منذ اللقاء الأول وشراكتهما في الحرف والحياة ومعاناتهم مع الاغتراب، وتفاصيل زواجهما الذي أنقذته سلفية مستردة من أحد البنوك، وغيرها من المحاور التي تجدونها داخل هذ الحوار.

 

اللقاء الأول
يقول إبراهيم دقش كان اللقاء الأول في جريدة (الزمان) بشارع السيد عبدالرحمن -الخرطوم- وأذكر وقتها كنت نازل من السلم حوالي الساعة (١١) ظهرا وكنت لابس بنطلون وقميص بلون أبيض، وكان ساعي البريد في ذلك الوقت يلبس جاكت أبيض وقميص، وحضرت بخيتة بالصدفة ونادتني بطريقة مستفزة وعاينت ليها وقلت نعم ياست، فقالت لي شيل الورق دا وأرفعو فوق، افتكرتها بتتعامل معاي باعتباري شغال في الجريدة وما ركزت في حكاية اللبسة البيضاء، وبعد وصلت الورق سألت نائب رئيس التحرير عن صاحبة هذا الورق، أخبرني بأنها صحفية معنا في ذات الصحيفة، واسمها بخيتة أمين محررة صفحة المرأة ولكن لم يسبق لي أن ألتقيت بها، وبعد نزلت وجدها لسة واقفة فسألتها انتي لسة واقفة هنا ليه؟ فردت عايزة أتاكد انك سلمت الورق للمسؤول -لأنها كانت لسة مفتكراني مراسلة – وبعدها طلعت تاني لمحمود أبوالعزائم وطلبت منه رقم تلفونها، وحضرت اليوم التالي للصحيفة في المساء واتصلت على تلفون منزلهم فرد علي شقيقها وطلبت أن أكلمها، فأستقبلتني بكلمة أستاذ فقلت لها أستاذ شنو أنا المراسلة بتاع أمس، وتأسفت جداً بأنها لم تكن تعرفني، وبمزاح قلت لها ستدفعي الثمن غالي، وردت ضاحكة بأنها ماتزال تدفع في هذا الثمن حتى الآن، وحضرت في اليوم الثاني للجريدة واعتذرت.

تفاصيل الزواج
ويواصل دقش في سرد حكايتهما قائلاً: في ذلك الوقت لم تكن لدي فكرة في الزواج وما كنت أملك تكلفته، فطرحت عليها الموضوع وكيفية التصرف، فاتفقنا على الاستعانة بأصدقائنا المشتركين وتم شراء الشيلة بالقطاعي، وكان حينها أقل مهر (٢٥٠) جنيه، فقدمت لسلفية من بنك الشعب وبقية تفاصيل الزواج اختصرتها في أقصى حد ممكن، وكان الفنان عثمان حسين وشرحبيل ومحمد حسنين أبو سريع قد تبرعوا بالحفل.

تجربة حياة
وحرص مني على تكافؤ الفرصة في هذ الحوار اتجهت بسؤالي لبخيتة أمين، التي واصلت من حيث توقف شريكها إبراهيم دقش، فقالت لما التقينا في جامعة القاهرة فرع الخرطوم التي كان لا يدخلها إلا الأذكياء والمميزون، وكانت نموذجا للجامعات، وأذكر أن أغلب الأساتذة كانوا سعداء بحضورا زواجنا لأن الكتابة في الصحافة حينها كانت من السمات التي تخلق لك هالة نجومية، لأنها قصة دراسة وخبرة وتجربة وليست مسألة تسلق كما يحدث الآن، واشتغلنا بالكتابة الصحفية فهو كان يكتب في صحيفة وأنا في أخرى.

زوج ريفي
وتقول بخيتة: بالرغم من أن زوجي قادم من منطقة السوكي، وفي ذلك الوقت وكانت القبائل لم تكن مقتنعة بأن يتزوج أحد أبناءها من بنات العاصمة، لكن عندما تكون الرؤى واضحة والثقة متوفرة والقناعة موجودة وحسن الظن الذي أعتبره من المذاهب المهمة، وهو الأمر الذي حدث بين العائلتين، فكسرنا الفوارق وذللنا العقبات فحدث التوادد والتواصل، وفي الحقيقة أسرتهم كأسرتنا تعشق العلم والمعرفة (التقينا هنا) لذلك لم تواجهنا أي عقبات، بالرغم من أن دقش من الريف واستوطن في المدينة وتعلم سلوكياتها وأخلاقها وتعرف على المجتمات الكبيرة، وختمت ضاحكة – لذا لم تواجهنا معوقات مابين زوج ريفي وزوجة من المدينة.

شراكة في المطبخ
إبراهيم دقش قالها دون تردد إن علاقته بالمطبخ لا تتعدى سلق البيض وعمل الشاي، فيما أكدت بخيتة بأنها ماهرة جداً في المطبخ وبطبعها تعشق المطبخ كما علمتها والدتها، وقالت بما أن دقش رجل قروي – كما وصفته – ودائما يحب المفروكة والكسرة.
وهنا تدخل دقش رافضا وصفه بالقروي، لكنه يعتز بأنه نشأ في بيئة عمالية متنقلة، لأن والده كان موظفاً بالسكة حديد، وقال إن مدينة السوكي تعد عاصمة الصعيد وبها أكبر محطة للسكة حديد حينها، وكانت نشأتي فيها نشأة حضرية مثلها مثل المدن الكبيرة.

نقد منزلي
وفيما يتعلق بنقد الكتابة الصحافية داخل المنزل، تقول بخيتة أنا لا أقرأ عمود دقش إلا برؤية قارئ عادي، وهو كذلك لايجرؤ على فتح اللابتوب ليقرأ ما أكتب، ولا يقرأ أعمدتي إلا من الجريدة فانا أكتب عمودي وأرسله، وهو كثير النقد لكتاباتي لكنني لا آبه للنقد كثيراً قناعة مني بما أكتب، ولا أتراجع عما كتبته ولا أندم على حرف، ولكن دقش أحيانا يكتب بتطرف عندما ينتقد احد، و قد أكون معتدلة في نقدي، لكن كان لـ دقش حديث آخر فقال: كنت أقدم لها النقد في السابق لكنني تركته لأنني وجدته لا يقدم ولا يؤخر.

دقش .. ومضرب الساقية
وعن لقبه (دقش) قال إبراهيم إن جده قد اختلف مع بعض السكان في المنطقة الشمالية، حول مضرب الساقية بالضفة الغربية، وعندما لم يصل معهم إلى حل، ذهب إلى المنطقة الشرقية تاركا لهم الساقية وأعتبروه ضرب الخلا (دقش) لأن الضفة الشرقية أرض صحراء وجدباء لكنه نجح وأقام فيها، وأثمرت زراعته، وأذكر عندما أراد الأنجليز تسمية أحد المحطات في أبو حمد فلم يجدوا معلما ليطلقوا عليه الاسم فسألوا أهل المنطقة فقالوا لهم (دقش) اشارة لجدي، فسميت المحطة بـ دقش ومن هنا صار (اللقب) وارتبط بنا حتى الآن.

مداخل للكتابة
ولأن الحديث الآن ينحو بنا تجاه الصحافة والكتابة، فكان سؤالي لإبراهم دقش متى وكيف بدأتها، فيقول: بدأت الكتابة منذ أن كنت في المرحلة الوسطى فأسست مجلة المجد وفي حنتوب أنشأت جريدة (اكسلانس) وهي جريدة فكاهية لاذعة وناقدة، وكان قد أسسها قبلي الاخوان صلاح أبو عصاية وحاتم عبد الرحمن، وكانت تصدر كل “خميس” ، ثم بدات الكتابة في جريدة (الصراحة) لصاحبها عبد الله رجب و(الصراحة الجديدة) التي أسسها الأستاذ محمود أبوالعزائم، ومن بعدها كتبت في جريدة الثورة وكنت أحرر صفحة أسبوعية بعنوان (النوافذ المضيئة)، ثم كتبت بجريدة (الزمان) ومن ثم جريدتي الأيام والصحافة.

سنوات في لندن
وتقول بخيتة أمين- واصلنا في عملنا الصحفي إلى أن سافرنا بريطانيا فكانت وجهة إبراهيم لمركز المعلومات البريطاني لدراسة كورس، والتحقت أنا باذاعة (بي بي سي) القسم العربي، وكنت أراسل صحيفة الصحافة وكانت رسالة لندن في ذلك الوقت من الرسائل المشهورة جدا وكنت أرسلها أسبوعياً، ويقرأها الناس في كل الوطن العربي وهذا بدوره خلق لي أرضية قوية جداً. وقالت سنواتنا في لندن أكسبتنا تجربة مفيدة جداً والحمدلله حياتنا تسير بتناغم ونناقش تفاصيل حياتنا بكل شفافية، ولأن تلك الفترة لم تكن فيها المرأة تخرج للشارع وتكتب في الصحف وتقدم برامج في الإذاعة، والكثير من العقبات قدرنا نتخطاها بالتفاهم لأن الهدف كان واحد والرسالة واضحة وهي من الأشياء التي جعلت بيننا هذا التناغم وبعيداً عن المناكفات، ودقش رجل واسع الأفق، وبالرغم من علاقات الصداقة الواسعة التي تجمعني بالكثير من الزميلات والزملاء فلم يحدث أن عكر مزاجي بسبب ذلك، لأن الثقة متوفرة وكذلك حسن الظن، حتى أبناءنا نشأوا على ذات النهج الطموح والثقة المتبادلة والبحث الدائم.
وأضافت في لندن مرت بنا ظروف صعبة بعض الشيء، ولم يكن لدينا مفر سوى العمل كعمال حتى نستطيع توفير مصروفنا لأن المرتبات لم تكن كافية، فاشتغلتُ عاملة في مخبز (قسم البسكويت) واشتغل دقش في قسم الخبز، وأضافت بعد ذلك عملت بائعة في محل أزياء مشهور ومصنع آخر للحلويات، وفيما بعد اشتغل دقش حمال طرود في محطة السكة حديد (عتالي)، وتواصل بخيتة: تجربتنا في لندن علمتنا درساً في الحياة.
وفي هذه اللحظات التي تسرد فيها بخيتة مادار في لندن، قطع حديثها دقش الذي عاد بنا للخرطوم وحدثنا عن بدايته في العمل بمكتب النشر التابع لوزارة التربية والتعليم التي تصدر عنها مجلة الصبيان ومجلة الكبار، كنا أنا ومصطفى أحمد سالم نحرر صفحة لوحدنا، فقلت لهم في صحفية شاطرة اسمها بخيتة أمين شغالة في جريدة (الزمان) ومعلمة في مدرسة شمبات، وحينها قال لي (ماتجيب لينا وحدة عايزة تجي الخرطوم وتستخدمنا سلم) وبعدها ذهبت مع بخيتة لمكتب النشر ولكن لم نستمر معا لأنني نُقلت إلى مكتب التربية والتعليم، وكنت في وظيفة ضابط نشر في وزارة التربية، وكانت الوظيفة كبيرة جدا وحينها عمري لم يتجاوز الـ (٢٣).

بعنا الدفاية في لندن
ومن الطرائف التي ذكرها دقش عندما كانوا في لندن، يقول: كانوا جايننا ضيوف في لندن ووضعنا المادي كان صعب جداً ولا نملك شيء، فاقترحت على بخيتة بيع الدفاية حتى نوفر مبلغ الغداء، لأن الدنيا كانت صيف ولا نحتاجها، وعندما ذهبت لصاحب المحل وعرضتها عليه اندهش ورفض الفكرة، لكنني أقنعته بعد طول جدال وبعد أن أخبرته عن ظروفي، وبعدها انطلقنا لأقرب سوبر ماركت وفي وجوهنا فرح طفولي لا يقاوم.

مستقبل الصحافة
تقول بخيتة إن عدم وجود تدريب للصحافيين، وعدم قناعة القائمين على أمر الإعلام باهمية التدريب وتخرج أعداد كبيرة من طلاب الإعلام – نظريا – دون الاعتماد على الجانب العملي الذي يعين الخريج على إيجاد فرصة عمل، وأضافت الحكومات في كثير من الدول ترصد ميزانية مقدرة للتدريب والبحث العلمي، والسودان لا يعبأ بهذا البند أصلاً وهذا مأخذي على الإعلام في السودان.

سبق صحفي
تقول بخيتة: من أهم الحوارات التي أجرتها في مسيرتها الصحفية، كان حوارها مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في أديس أبابا، ومع الرئيس السوري حافظ الأسد عندما تم انتخابه كرئيس للجمهورية، وقالت كنت حافية الأقدام عندما أطل حافظ الأسد على صالون الصحافيين عند الثانية صباحاً، وكان هنالك أكثر من مئة صحفي واعلامي ينامون على تلك الوسائد، وعندما سمعت صوت الباب يُفتح كنت الوحيدة التي لم تنم فنادى على الرئيس حافظ الأسد (ياسودانية تفضلي) فدخلت على بهو قصر فخيم، فاجريت معه حواراً قصيرة لكنه كان (خبر العالم) ليصبح مانشيت أغلب صحف الوطن العربي في أواخر السبعينيات، وكان وقتها الحوار لصالح صحيفة (الصحافة) التي كنت أعمل بها، وحين استيقظ فجراً مندوب وكالة الأنباء السورية “سانا” وجدني خارجة من صالون الأسد وطلب مني أن ينقل الحوار لصالح الوكالة فرفضت، وفي يوم سفري أهداني الأسد كميات من الحلوى السورية وقنينة عطر وبطاقة شخصية بها عنوانه، وكانت صحيفة الصحافة قد كافأتني أيضا بمبلغ مالي مقدر.

البن واللقيمات والطيب صالح
وتحكي بخيتة قائلة: من المواقف التي لا تُنسى عندما جاء الطيب صالح للسودان بعد طول غياب، قدمنا له دعوة لتشريفنا في دارنا بام درمان، فقال لي أقلي البن وجهزي اللقيمات والشاي الصاموتي، جاء هو ومنصور خالد ومحمد الحسن أحمد، ووقتها دعونا الفنانة سميرة دنيا وحضرت ولم تكن هنالك دلوكة في المنزل وكانت توجد علبة لبن فارغة وبدأت سميرة تدق عليها والدموع تبلل عينيها وهي ترى الطيب صالح لأول مرة، وفاض منزلنا بالضيوف وتنادى أهل الحي كلِ معه طعام أو شاي، وغنت سميرة دنيا (يجوا عايدين يجوا عايدين ناس الطيب الزينين) ولما تعالت الصفقة والرجال يلوحون بعمائمهم بكى الطيب صالح.

       برعي الأبنوسي

الخرطوم: (صحيفة الجريدة)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى