تحقيقات وتقارير

في ذكرى السادس من أبريل.. حين حطم الشعب أصفاد الـ30 عاماً

لم يكن غريباً على جماهير الشعب السوداني التأكيد على المقدرة المدهشة في تكرار الانتفاضة الشعبية قولاً وفعلاً وهدفاً في ذات الميقات الزماني وبعد نحو34 عاماً ، هي عمر الانتفاضة الأولى ضد نظام المعزول الراحل جعفر نميري في 6 أبريل 1985م. ثم جاء انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو 1989م ليسدل أستاره السوداء على مسرح الحركة الجماهيرية السودانية، معلناً إغتيال الخيار الديمقراطي الذي تعلق به السودانيين حينما أطاحوا بالديكتاتور نميري وقذفوه إلى مزابل التاريخ السياسي. ولكن زبانية الانقاذ إستأسدوا على الشعب السوداني بقوة الحديد والنار، وبذلوا كل عصارات فكرهم التخريبي لإجهاض الحركة الجماهيرية وتشتيت وحدتها وتفتيت لحمتها الوطنية، لكن جيل الشهداء البواسل في حراك ديسمبر المجيدة، كان له رأياً آخر ، لم يقهره الموت ولم تخيفه بنادق النظام، ولم يستطع حراس النظام وجنوده وحواريه ووعاظه ، أن يكبلوا زحف هذا الجيل في ذكرى السادس من أبريل ، حينما باتت الثورة ضد نظام المخلوع البشير مثل فرض عين، لا يكفر به إلا من آمن بالنظام الفاسد وتماهى مع كذبه وضلاله وأضحى لا يهمه غير الحفاظ على النظام في سدة الحكم حتى لو سالت دماء كل السودانيين.

 

رأس الرمح
لعب تجمع المهنيين السودانيين دوراً كبيراً وبارزاً في قيادة الحراك الثوري الذي انتظم البلاد منذ التاسع عشر من ديسمبر 2018، وقد كانت لمكونات تجمع المهنيين المختلفة أثراً بديعاً في تجميع صفوف السودانيين ضد نظام البشير الذي سفك الدماء و بعثر ثروات البلاد وأضاع هيبتها ورهن قرارتها وباع سيادتها الوطنية وجعلها مسخرة بين شعوب العالم ، تغرق كل يوم في محيط العزلة الدولية مثل بعيرٍ أجرب يعافه الناس وينفر منه القطيع. وعندما استدركت قوى المعارضة السياسية بأنه لا سبيل لإسقاط النظام غير التماسك والتوحد في ميدان المعركة ضد أعتى النظم الديكتاتورية والقمعية التي شهدها تاريخ الانسانية جمعاء، كان ميلاد إعلان تحالف قوى الحرية والتغيير والذي كان تجمع المهنيين هو بمثابة الدينمو المحرك لقلب التحالف وهو سر التناغم الذي جعل الحرية والتغيير بمثابة المظلة الشرعية لجمهور الثوار في حراكهم لإسقاط البشير وزمرته. جلس تجمع المهنيين على كابينة قيادة الشارع ، وأضحت بياناته وموجهاته بمثابة عقيدة يلتف حولها جمهور الثوار، يتلقفونها سطراً بسطر وحرفاً بحرف، دون أن يتخلفوا ساعة في تلبية نداء الحراك الثوري في أية منطقة وأية زمان وأية مسار. وبالطبع نجح تجمع المهنيين الذي كان لا يعرفه الثوار إلا من خلال بياناته ولا حاجة لهم بمعرفة قياداته أو منهم الذين يقومون بالتخطيط ورسم موجهاته، نجح في قيادة الحراك الثوري والانتقال به من خانة إلى خانة ، إلى أن لاح في الافق الاقتراب من ذكرى السادس من أبريل والتي كانت تعني لجماهير الشعب السوداني الميقات الفصل، والذكرى الملهمة التي تعيد للأجيال كيف نجح السابقون في هد معبد الديكتاتور نميري، وبهذا عكف تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير للتحضير لثورة عارمة في السادس من أبريل، وتداول الثوار ديباجات الدعاية الكبرى للحراك الوشيك في أبريل، تمجيداً لذكرى الانتفاضة الباسلة، وخيطاً من الوصل الرفيع بين السابقين واللاحقين في معاني النضال والإصرار على تحقيق الحرية والعدالة والسلام.

فكرة القيادة العامة
وقتها، كانت الاحتجاجات في السودان ضد نظام البشير قد دخلت شهرها الرابع، وبدأت منددة بالغلاء وتحولت إلى المطالبة بتنحي البشير. واختار منظمو المظاهرات 6 أبريل تحديدا للدعوة إلى الاحتجاجات إحياء لذكرى انتفاضة عام 1985 التي أطاحت بنظام الرئيس جعفر نميري آنذاك. وبحسب مراقبين، كانت ظاهرات السبت السادس من أبريل 2019 الأضخم التي تشهدها الخرطوم منذ انطلاق الاحتجاجات في 19 ديسمبر الماضي. وكان آلاف المتظاهرين خرجوا إلى شوارع الخرطوم. ووصل كثير منهم إلى بوابة قيادة الجيش وسط العاصمة مطالبين بتنحي البشير، وبالحرية والعدالة. وضربت قوات الجيش طوقا حول مقر القيادة دون محاولة تفريق المتظاهرين. كما احتشد المتظاهرون على بُعد مئات الأمتار من مقر إقامة الرئيس، وأطلقت عليهم السلطات الأمنية الغاز المدمع بغية تفريقهم. وخرجت مظاهرات مماثلة في عدد من المدن أبرزها من مخيم “كلمة” لنازحي دارفور المتاخم لمدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وفي عطبرة شمال البلاد، وفي القضارف وكسلا (شرق). وطالب التجمع وحلفاؤه الجيشَ بالانحياز للشعب، وسحب ثقته من البشير ونظامه، والاضطلاع بمهامه الدستورية في حماية البلاد وشعبها.

الوصول الباسل
وقبل وصول آلاف المتظاهرين إلى محيط القيادة العامة للجيش السوداني، كانت قوات الأمن تتعامل باستخدام القوة والعنف المفرط في مواجهة المتظاهرين يوم السادس من أبريل، وبذلت كل مخططاتها القمعية للحيلولة دون وصول المتظاهرين إلى محيط القيادة، إلا أن إصرار الثوار كان مدهشاً وبديعاً، وكانت حشودهم كلما طاردتها القوات الأمنية وكلما فرقت جموعها، تستعيد قواها وتجمعاتها من شارع آخر ومنطقة أخرى، وبحلول عصر السبت من السادس من أبريل، كسر المتظاهرين أطواق الترسانة الأمنية، ونجحوا من الوصول إلى محيط القيادة، وكانت مواكب الثوار تتدفق على أبواب القيادة من كل فج ومن كل صوبٍ وحدب، انهارت عزيمة القوات الأمنية وتلاشت جموعهم أوساط الزاحفين إلى محيط الجيش، وهناك تعالت الهتافات بالحرية والعدالة والسلام، وضجت سموات الخرطوم بصخب الهتاف المطالب برحيل النظام، وكان هتاف الثوار يثقب أسماع الجنود والضباط، يوقظهم من وهدتهم الطويلة، كان الهتاف القادم من حناجر الصغار حزناً و برقاً و مطراً ، كان سفراً إلى وهج النهار. وعند غروب الشمس ورغم المحاولات المتكررة لتفريق جموع الثوار بالغاز اللعين وبالقنابل الصوتية ولعلة الرصاص، بدأت تباشير الانحياز من جنود وصغار الضباط تلوح من وجههم، وهنا تعالى هتاف الثوار مصمماً على البقاء في محيط القيادة إلى أن يتم الإعلان عن رحيل النظام، وتعالى الهتاف الذي مثل قاصمة الظهر للنظام : ( الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع)، وبالطبع كان المقصود هو مواصلة الاعتصام في محيط القيادة إلى أن يعلن الجيش انحيازه إلى الشعب ويقوم بإنهاء عهد البشير ويكتب نهايته التي ينتظرها الشعب على أحر من الجمر.

ذكرى (القومة للوطن)
عامٌ مضى على ذكرى انتفاضة السادس من أبريل التي سطر بها الشعب السوداني أروع الملاحم الوطنية، حين انتصرت إرادته وصولاً إلى بوابات الجيش السوداني والإحتماء بالمؤسسة القومية دون سواها من بقية القوات النظامية الأخرى. تأتي ذكرى أبريل والبلاد مثل غيرها من بلدان العالم يخنقها فيروس الكورونا اللعين، يشتت جمعها، ويقيد حركتها، ويؤرق مضاجعها، إلا أن إرادة السودانيين الواثبة نحو نباء الوطن واستكمال ثورته العتية، تمضي بقوة وثبات، ولم تنقطع أنفاس المواكب الثورية طيلة عام بأكمله. وهاهو شعب السودان الثائر والمحب للوطن وللثورة والشهداء، يتداعي لحملة القومة للوطن، ليؤكد للعالم الأجمع بأن ثورته ماضية في أهدافها، وأنها سوف تنتصر على إرادة المتآمرين والمخربين والذين يريدون مصادرة أحلام الشعب بالانعتاق من براثين القمع والفساد والرجعية. ومنذ أن أعلن رئيس وزراء حكومة الثورة عبدالله حمدوك عن حملة القومة للسودان لاستكمال أهداف البناء والتعمير، انهالت التبرعات من أبناء وبنات الشعب السوداني رغم الظروف الحياتية القاسية ورغم قهر الاقتصاد وكل عقبات الدولة العميقة ومخططات الثورة المضادة وحملتهم الدعائية المضادة ضد الوطن وحكومة الفترة الانتقالية، إلا الشعب السوداني هاهو يحيي ذكرى السادس من أبريل بإنتفاضة حركية أخرى محسوبة الأهداف وواضحة الهوى، لا تبتغي غير رفعة الوطن السودان وتحقيق أمنه واستقراره ولو كره الكارهون.

 

       عبدالناصر الحاج

الجريدة: (صحيفة الجريدة)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى