تحقيقات وتقارير

يتسلقن الأسطح.. ويجهزن (الملاطم).. نساء “اسطوات” في دارفور

قبل أن تهرب من قريتها المطلة على سفوح جبل “مُرة” العظيم ؛ تلك القرية التي لطالما تغنى بجمالها شعراء الاقليم – قبل أن تهرب على إثر اشتداد زخات الرصاص بين حكومة المركز والقوى المناهضة لها في العام 2003 وتستقر في أكواخ معسكر ” كلما ” الذي يعتبر معلماً وشاهداً على ظلم الانسان لأخيه الانسان، قبل أن يحدث كل ذلك – لم تفكر فاطمة ذات الثلاثين عاماً أن الأمر سينتهي بها مجرد “عاملة بناء “، كما أنها لم تتصور مطلقاً أن تيار الحياة سيُخبئ لها هذا القدر من الألم.
فاطمة التي تخصصت في تجهيز “الملطم ” وهو ما يعادل أطنان من الطين ، أي بمقدار شحنة عربة من نوع “كي واي ” اعتادت على تسلق الحائط و أسطح المنازل التي لم يكتمل تشييدها بعد حتى دون أن تستخدم مدرجاً . كانت تجلس على قمة المبنى الذي تعمل به وتمسك بيديها الخشنتين حبلاً غليظاً من البلاستيك لتسحب به قدح ” المونة ” الذي تناوله لها إحدى صديقاتها لتفرغه أمام ” البناء ” الذي يبدو أنه منهمك في إكمال ” البرفيت ” ليثبت بذلك تفوقه على أقرانه الآخرين ويؤكد استحقاقه للمبلغ الزهيد الذي يتقاضاه.

 

ظاهرة دخيلة
لم يكن النزوح و التشرد هما ما خلفته حرب السبعة عشر عاماً، ولا حتى الموت والبؤس فقط، وإنما خلفت كذلك ظواهر أخرى لم يألفها أهالي الاقليم المنكوب من قبل كظاهرة عمل النساء في مهنة ارتبطت تاريخياً بالرجال الأقوياء ، وفي الأقوياء بالتحديد أولئك المفتولي العضلات فقط، ولو أن المرأة هناك قد سبقت نساء بعض المناطق في طرق باب أعمال تعد شاقة نوعاً ما إلا أنه لم يحدث وأن عملت كعاملة للبناء لتكسر بذلك أحد التابوهات الشائعة.
فاطمة التي ترفض ربط العمل بجنس الانسان تقول في حديثها” للجريدة ” :” ليس عملاً ذكورياً – علينا فقط الاعتياد عليه “، حاولت الصحيفة في إطار محاولتها الدؤوبة لطرح قضايا السودانيين والنساء بشكل خاص- حاولت الاستقصاء عن نسبة النساء العاملات في مجال الأعمال الشاقة – ولكن كالعادة اصطدمت بانعدام السجلات الرسمية، غير أن مصادر أشارت إلى أنهن يقدرن بالمئات، وحول الأسباب التي دعت النساء إلى طرق هذا الباب تؤكد معظم اللائي استطلعتهن “الجريدة ” : أن السبب يكمن في الفقر ، وفاة المعيل ، وانعدام فرص العمل التي تتسق مع طبيعة النساء”.

وفاة العائل
تقول فاطمة التي عرفت وسط أقران العمل بـ ” محمد ولد ” إنها ” فرت من قريتها واستقرت بمعسكر “كلما” ، غير أن الأحداث التي شهدها المعسكر قبل سنوات عجل برحيلها إلى معسكر عطاش شمالي نيالا “، وحول الأسباب التي دفعتها لطرق هذا الباب تقول : ” توفى والدي وأنا صغيرة وترك لي أربع شقيقات، وأنا الآن أقوم بإعالتهن” . وتوضح : ” أن هنالك الكثير من الفتيات بالمعسكرات يلجأن إلى طرق أبواب العمل لأنهن لا يجدن ما يأكلنه ؛ خاصة بعد ذهاب منظمات العون الانساني ” . أما فيما يختص بطبيعة عملها تقول إنها تخصصت في تجهيز “الملاطم” . وهو برأيها:” شاق ومؤلم للغاية ” وتردف : ” بعد انتهاء ساعات العمل تكاد رجلاك لا تقويان على حملك ، وتشعر أنك على وشك السقوط “، وحول سؤالنا لها عن الأجر الذي تتقاضاه تقول إنه : ” يتفاوت مابين170 إلى 200 جنيه ” . غير أنها تؤكد : ” ليست كافية ، وأحياناً تنتهي في المواصلات فقط خاصة إذا كان موقع العمل بعيداً عن المعسكر ” . وعما إذا كان عملها كأنثى وسط الرجال خطراً عليها أم لا تهز رأسها بالايجاب . وتبدأ في سرد تجربتها الأولى في أيام العمل لتنتهي إلى القول : ” تعرضت لمضايقات في البداية ، ولكن هذا الأمر تلاشى الآن ” . وتبرر ضاحكة : ” لأني عنيفة ؛حتى أنهم يسمونني محمد ولد “، أما بخصوص ساعات العمل تقول : ” حوالي الثماني ساعات”.

انعدام فرص العمل
أماني- وهي أم لثلاثة أطفال تسرد حكايتها قائلة : ” توفي زوجي منذ أكثر من ست سنوات ، ولم يترك لنا ما نعتاش به ، كانت لنا مزرعة نعتمد عليها في حياتنا غير أن الأوضاع الأمنية المنهارة تسببت في توقف خدماتها ” وتضيف : ” في البداية كنا نعتمد على ما تقدمه لنا المنظمات ، ولكن بعد طرد الكثير منها تناقصت حصصنا الغذائية بالتالي هذا دفعنا إلى البحث عن مصدر دخل والعمل خارج المعسكر ” . وتشير إلى أنها بدأت أول الأمر كغسالة، وتوضح : ” كنا نجوب أحياء نيالا إلى أن نقابل زبوناً لنغسل ملابسه ” . غير أنها تستدرك : ” أحياناً يفتح الله لك ، ولكن في أحايين أخرى تعود خائباً إلى منزلك لتصطدم بعيون أطفالك الجوعى ” . لهذا – والحديث لأماني – : ” تركت تلك المهنة وعملت في مجال البناء ” . وترى أنه ” شاق ؛ خاصة لأم مثلها ” . ولكنها مع ذلك مجبرة على العمل خاصة إذا أرادت أن تطعم أطفالها حسب تعبيرها.
وحول الأجر الذي تتحصل عليه نظير عملها تكشف أنه يعادل 150 جنيهاً . وهو برأيها : ” يقضي جزءاً بسيطاً فقط من احتياجات أسرتها خاصة مع الارتفاع المستمر للسلع الغذائية “، وعن الصعوبات التي تواجهها من الرجال العاملين في مهنتها تقول: ” هنالك صعوبات، ولكن الأمر يتوقف عليك ،وعلى مدى قدرتك في التصدي لهم “، وتوضح ضاحكة : ” هم – تقصد الرجال – يخافون الخشنات ،وذوات الأيدي القوية ” . وتردف: ” هنالك من يقدر ظرفك ويتبرع لك حتى براتبه اليومي ، ولكن هنالك أيضاً آخرون سيئين بكل المقاييس” .
ورأت أن القضاء على ظاهرة عمل النساء في مجال الأعمال الشاقة يتوقف على توفر فرص عمل أخرى، غير أنها تقول : ” الحكومة لا تريد ذلك “، بل وتعيب عليها تجاهلهن وعدم الاهتمام بقضايا المرأة النازحة، وتأمل أماني كثيراً في أن يتوصل طرفا النزاع في جوبا إلى سلام يحقق ولو القدر اليسير من أحلامهن، وتضيف : ” نحن معشر النساء أكثر الشرائح تضرراً من الحرب، وبالتالي فنحن نطالب بالتعجيل في طي ملف السلام حتى نعود إلى حياتنا السابقة ونمنح ولو القليل من الأمل لأطفالنا”.
الفقر
بدورها تقول بخيتة – وهي في ريعان الشباب – وتظهر على وجهها المستدير بعضاً من علامات الجمال التي كساها غبار الطين وصلابة الطوب، تقول : ” إنها بدأت كمساعدة لبائعة شاي ولكنها سرعان ما تضجرت من صلف صاحبة العمل ومعاكسات الزبائن لينتهي بها الأمر كعاملة بناء “، وحول طبيعة عملها توضح : ” أنها مجرد عاملة تتمثل مهمتها في نقل الطوب ” .وتقول : ” فيما مضى – كنا نحمل الطوب بالقداحة على رؤوسنا، ولكن عندما يطيل حجم المبنى نضطر إلى تسلقه ومن ثم نسحب القداحة المليئة بالطوب بواسطة الحبال كما يسحب الناس الدلو من البئر “، وهذا الأمر برأيها: ” يؤلم أيديها كثيراً” . غير أنها تستدرك : ” الآن صرنا نعتمد على السقالات – وهي مثل المدراج التقليدية “، وحول المبالغ التي تحصل عليها تكشف أنها تعادل حوالي 140 جنيهاً وعما إذا كان يراودها الحلم في مواصلة دراستها تقول : ” أتمنى ذلك كثيراً، ولكني لا أملك حق التعليم ” .

صانعة الكمائن
” زوجي مريض ؛ لهذا وقعت تربية الأبناء واعالتهن على عاتقي ” هكذا تبتدر الحاجة كلتوم حديثها مع ” الجريدة ” . وتشير إلى أنها تعمل في صناعة الطوب، حيث يقمن بصناعة الطوب من الطين بواسطة قوالب محلية صنعت من الخشب خصيصاً لهذا الغرض، وتروي طريقة صنع الكمينة قائلة : ” في البدء تضع الطين على القوالب وعندما يأخذ هيئته المعروفة تقوم بتجميعه ثم ترتيبه بشكل مربع بعدها تترك منفذاً في الوسط لتدس بداخله الحطب وقشر الفول ثم تشعل فيه النار ، وبعد أن يتم مدة تتراوح لأسبوع تقوم بفتح الكمينة وأخذ الطوب” . وأشارت إلى أنه شاق للغاية، وفي بعض الأحيان يتعرضن للحرق وانهيار الكمائن على رؤوسهن، ولكنها تستطرد : ” الله معانا “، وحول العوائد التي تحصل عليها جراء ذلك تقول : ” نحن نصنع كمائن صغيرة فقط ، ولكن العائد مجزي ، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على النساء العاملات بكمائن الآخرين، لأنهن يمنحن أجراً يومياً فقط “. وتطالب الحكومة بضرورة توفير فرص لهن أو حتى تقديم مشاريع صغيرة حتى يتمكن من العيش بكرامة، وتضيف: ” فيما يخصني أنا فقد انتهى عمري الافتراضي، ولكني أخشى على أطفالي من مثل هذا المصير ” . لهذا فإنها تقول : ” على الدولة أن توفر تعليماً مجانياً لفتيات المعسكرات والريف حتى لا يعانين مما عانته أمهاتهن”.

نتائج عكسية
كغيرها من الأعمال الأخرى ، تترتب على عمل النساء في الأعمال الشاقة عدة نتائج عكسية ، وتتمثل أبرز تلك النتائج مثلما ذكرت بعض النساء اللائي استطلعتهن “الجريدة ” في : الموت جراء انهيار الكمائن ،السقوط من أسطح المنازل، الإجهاض بسبب ثقل الطوب وخاصة عند العاملات الحوامل، علاوة على ذلك التعرض للتحرش والاعتداءات من قبل أقران العمل، كما أن هنالك نتائج ثانوية أخرى كذبول المرأة، والإصابة بمرض الغضروف، وآلام الظهر.

ضحايا حرب
على خلفية انهيار كمينة طوب وتسببها في وفاة طفل وإصابة امرأة دعت رابطة إعلاميي وصحفيي دارفور : ” جميع فصائل الشعب السوداني إلى الالتفات لقضايا النساء ومواساتهن ودعمهن لمجابهة الظروف القاسية التي يعايشنها ” . وقالت الرابطة في بيان لها: ” إن المرأة السودانية في مناطق النزاع والحروب في السودان ظلت تشكل دور الضحية في كل مراحل الحرب المختلفة كما أنها تتحمل أعباء كثيرة تنوء عن حملها الجبال الراسيات ” . وحول الأسباب التي تدعو النساء إلى طرق هذا الباب ترجعها الرابطة إلى : “فقدان الزوج والإبن والاخ”، بجانب : ” انعدام فرص التعليم الذي يؤهلها للالتحاق في السلك الوظيفي بالدولة “، لهذا فإن المرأة – والحديث للرابطة – : ” تجد نفسها في مواجهة صعوبات الحياة من أجل إعالة الأطفال وتربيتهم ” كما أنها : “تلجأ للأعمال الهامشية في الزراعة البدائية ومصانع الطوب وجلب الحطب وصنع الشاي ” وهذا مثلما تؤكد الرابطة : ” يعرضها لمخاطر صحية وجسدية ونفسية لا تتسق مع طبيعتها الفيسلوجية”.
وتضيف: “إنها ظلت تراقب أوضاع النساء في أماكن النزاع من مخميات النازحين واللاجئين وترصد مايتعرضن له من مخاطر وإنتهاكات أثناء مكابدتهن من أجل توفير لقمة العيش الحلال ” وتدلل على ذلك بـ : “حادثة انهيار كمائن الطوب في أحد نساء معسكر زمزم للنازحين بولاية شمال دارفور ” وترى أن تلك الحادثة ليست سوى :” واحدة من عشرات المآسي والمخاطر التي تواجه المرأة النازحة “.
وتذهب الرابطة إلى القول أن الحل يكمن في : ” سن تشريعات تجعل من ضرورة والزامية تعليم النساء وإنشاء أقسام خاصة بدعم النازحات وتوفير ضروريات واحتياجات الحياة من خلال وزارات الشؤون الاجتماعية والمؤسسات التابعة لها “.

غياب دور الدولة
في المقابل يكشف الناشط الحقوقي الصادق ادريس : ” أن معظم الكمائن التي تعمل بها النساء تخص نافذين ” . ويرى في حديثه ” للجريدة ” : ” أن اعتماد أصحاب الكمائن على النساء يعود في المقام الأول إلى رخص أجورهن ” . ويقول : ” تضطر كثير من النساء الفقيرات إلى قبول أية فرصة عمل بسبب الفقر حتى لو كان العمل بحد ذاته متناقضاً مع طبيعتهن” . كما أنه ينبه أيضاً إلى : ” وجود عمال دون السن القانونية في تلك المهن” . ويقول : ” هنالك أطفال يعملون في الكمائن وأعمال البناء ” .
ويكشف ادريس عن : ” غياب الدولة بكل مستوياتها سواء أكانت متمثلة في الرعاية الاجتماعية ،حماية الأسرة والطفل ، أو حتى ديوان الزكاة “، ويردد: ” ما في زول جايب خبر للفئات دي ” على حد تعبيره . وأوضح : ” أن الرعاية الاجتماعية في دارفور مجرد مؤسسة فقط ، كما أنها ليست لها أية أدوار ملموسة “، بينما يصب هجومه على ديوان الذكاة، ويتساءل مستنكراً: ” لماذا لا توجه أموال الزكاة في دعم هذه الفئات”.
وحول ما إذا كان عمل النساء في مجال الأعمال الشاقة يتسق مع طبيعتهن أم لا يقول : ” بالتأكيد لا يتسق غير أنهن مضطرات للعمل إذا ما كانت تحدوهم الرغبة في حياة كريمة”.

             احمد داوود

الخرطوم : (صحيفة الجريدة)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى