تحقيقات وتقارير

هشاشة القطاع الصحي في السودان.. (كورونا) تفضح ميزانيات عهود اللا مبالاة

قالت منظمة الصحة العالمية في بيان نقلته وكالة السودان للأنباء (الأحد)، أن وضع السودان في منطقة الخطر، في مواجهة جائحة كورونا، نظرًا لخطورة الفايروس وقدرات البلاد على الاستجابة لأي تفشٍ واسع محتمل للمرض. وأشارت المنظمة إلى أن صرف السودان على النظام الصحي ظل محدودًا لعقود طويلة، مما جعله يفتقر للكادر الطبي المُؤهل والمعدات الطبية والإمدادات الدوائية، إضافة لضعف البنيات التحتية. وأكدت المنظمة على أن النظام الصحي السوداني الذي يعاني من ضعف هيكلي، لا يشمل كل مناطق البلاد، الأمر الذي سيحدث تأخير في الفترة بين التبليغ عن الوباء والاستجابة له. ولعل ما أقرت به منظمة الصحة العالمية يؤكد معقولية كل الانتقادات والأصوات الرافضة لمعظم الميزانيات التي إعتادت الدولة السودانية على إجازتها وكان قطاع الصحة يقبع فيها في أدنى سلالم الصرف والإهتمام، بينما يتوفق الأمن والدفاع والمنصرفات الرئاسية على كل بنود الصرف وعادةً ما يتم تتويجه في أولويات الموازنة السنوية.

الموقف الراهن
في الوقت الذي تعيش فيه شعوب العالم قاطبة، أسوأ فترات حياتهم على كوكب الأرض بسبب إنتشار الوباء بصورة غير مسبوقة ولم يشهدها العصر الحديث للحضارة البشرية، يعيش السودانيون حياتهم بشئ قليل من الحذر ولكن الحياة اليومية مستمرة دون توقف، وربما لأن المعلومات الرسمية التي تؤكدها وزارة الصحة الاتحادية، تجعل المواطنون يمارسون حياتهم وكأن الوباء أصبح خاصاً بأوروبا أو لا يستطيع الوصول إلى السودان، وعلى الرغم من أن السُلطات الصحية السودانية أكدت رسمياً إصابة حالتين فقط بفايروس كورونا، أحدهم توفي بسببه، فيما وضعت 13 شخص في العزل الصحي للاشتباه بإصابتهم بالوباء، إلا أن الوزارة قالت إن الحكومة اتخذت إجراءات في سبيل الحد من ظهور الوباء، من بينها إنشاء مراكز للعزل الطبي لعلاج مرضى الفايروس، بجانب تخصيصها المستشفيات العسكرية كمراكز للإيواء والعلاج. وأشارت إلى أن الهدف الأساس للاستجابة الدولية للفايروس يرمي إلى إيقاف انتقاله من شخص إلى آخر داخل المجتمع ورعاية المصابين. هذا بجانب وجود فرق متطوعة تعمل في البلاد على توعية المواطنين بمخاطر فايرس كورونا وسبل الوقاية منه؛ في مساهمة منها لتعزيز الجهود الحكومية بهذا الخصوص.

أزمة القطاع الصحي
طيلة سنوات حكم النظام البائد، لم يحظَ القطاع الصحي بأولوية في بنود الصرف الحكومي، إذ يستأثر دائماً محور الأمن و الدفاع على النسبة الأعلى في الموازنة العامة، بينما تراجعت الصحة تحديدًا إلى أدنى سلم الأولويات، حيث لا تتجاوز عادة 6%. و خلال الفترة الأخيرة من عمر النظام البائد، كان وزير المالية والاقتصاد، معتز موسى، وبحسب تقرير تم نشره في موقع ( سودان ألترا)، كشف عن أن نسبة الصرف على الصحة في موازنة عام 2019 ستبلغ 6%، والنظام العام وشؤون السلامة 5%، مع أن السودان من الدول الموقعة على اتفاقية أبوجا عام 2003، والتي تنص على ألا يقل الصرف على الصحة عن 15% بأي حال. وبحسب تقارير ومنشورات سابقة للجنة المركزية للأطباء السودانيين، فإن تجليات أزمة القطاع الصحي سنوات حكم المخلوع البشير انسحبت على الأوضاع السياسية بصورة ما، وذلك بسبب ما كان يعرف وقتها بـ”إمبراطوريات” الفساد المحتكرة لاستيراد الدواء والتحكم في أسعاره، إلى جانب الصراع السابق بين وزارة الصحة في ولاية الخرطوم والوزارة المركزية، والإمدادات الطبية من جهة أخرى، وكان وزير الصحة الاتحادي في النظام البائد، محمد أبوزيد المصطفى، أطيح به مؤخراً من منصبه ، حيث أرجعت مصادر صحفية آنذاك أسباب إقالة أبوزيد، إلى خلافات إدارية متجذرة داخل وزاة الصحة، إضافة إلى قضية الدواء المدعوم، كون الحكومة تدعم استيراد الدواء بنحو 200 مليون دولار شهريًا، غير أن تحرير سعر الدواء تسبب في ارتفاع جنوني في سعره السوقي وفي الخدمات العلاجية عمومًا.

ميزانية اللا مبالاة
تأسيساً على قاعدة الإجحاف الذي يعاني منه قطاع الصحة طيلة ثلاثون عاماً، وانهيار كبير في القطاع وقع على عاتق حكومة الفترة الانتقالية الحالية، بسبب اتجاه النظام البائد إلى وضع جل الموازنة الاقتصادية من نصيب الأمن والدفاع تحت دواعي الأمن القومي والذي لم يكن يعني شيئاً آخراً للنظام المخلوع غير ضرورة المحافظة على وجود النظام في سدة الحكم، دون أدنى مراعاة للصحة العامة أو دون أية حاجة للتنبؤ بقدوم كوارث صحية محتملة تتعرض لها البلاد. في العام 2018 وبحسب تقرير نشرته المجموعة السودانية للدفاع عن الديمقراطية أولاً، خصصت ميزانية النظام البائد ٢٣ مليار و٨٨٨ مليون جنيه لقطاع الأمن والدفاع بالإضافة إلى ١٠ مليار و ٧٠٥ مليون إلى ما سمي بالنظام العام وشؤون السلامة فيما بلغت ميزانية قوات الدعم السريع وحدها ٤ مليار و ١٧٠ مليون جنيه مقابل تخصيص ٢ مليار و٩٤٢ مليون لقطاع الصحة و ٥ مليار و٣٢٦ مليون جنيه لقطاع التعليم، وكذلك تم تركيز اغلب منصرفات الميزانية على المركز الذي حاز على نسبة 72% ؜ من منصرفات الموازنة العامة مقابل تخصيص نسبة ٢٨٪؜ من الميزانية لكافة الولايات.

ميزانية الفترة الانتقالية
عندما أعلن وزير المالية والاقتصاد في الحكومة الانتقالية السودانية إبراهيم البدوي إقرار ميزانية للعام 2020 ، قال إنها تتضمن عجزاً يمثل 3.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في ظل أزمة اقتصادية حادة يواجهها البلد. وكان قد تم إقرار الميزانية خلال اجتماع لمجلس السيادة الذي يتولى الحكم ومجلس الوزراء، وهي أول ميزانية للحكومة الانتقالية. وقال البدوي إن “الاجتماع المشترك أجاز ميزانية 2020″، موضحا أن “الإيرادات مثلت فيها 27.3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي والإنفاق مثل 30.8 في المئة وذلك بعجز كلي نسبته 3.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي”. وأوضح البدوي أن “الإنفاق على الدفاع كان في العام الفائت يمثل 9 في المئة من الناتج المحلي وخفض في هذه الميزانية إلى 7 في المئة”، مضيفا أن “الإنفاق على الصحة كان يمثل 4 في المئة وارتفع إلى 7 في المئة من الناتج المحلي، والتعليم من 7 في المئة إلى 9 في المئة”. من جهة أخرى، أشار البدوي الى أن دعم أسعار السلع الأساسية يزيد عن الإنفاق على الخدمات والدفاع. وأشار إلى أن “الإنفاق على الخدمات والدفاع يمثل 34 في المئة من مصروفات الميزانية بينما الدعم السلعي يمثل 36 في المئة، ما يجعل قضية الدعم قضية مركزية في الاقتصاد السوداني”.

إحراج كورونا للعالم
بالطبع السودان لم يكن استثناء عن كل دول العالم الكبرى، التي اتجهت الأنظمة الحاكمة فيها إلى إيلاء قطاع الأمن والدفاع الأولوية القصوى في سلم اهتماماتها الاقتصادية، وعلى الرغم من الدول الكبرى كانت تراعي قطاع الصحة بالمقارنة مع السودان، إلا أن جائحة كورونا فضحت كل الإدعاءات الكاذبة بإمتلاك القوة والسلاح. الولايات المتحدة الأمريكية التي امتلكت زمام القرار السياسي في العالم لما لها من إقتصاديات ضخمة فيما يتعلق بالتصنيع الحربي والصرف على منظومة الدفاع والأمن، تواجه اليوم وضعاً محرجاً في قطاع الصحة بسبب الفيروس غير المرئي، وهو ذات الأمر الذي يجعل الولايات المتحدة تشكو ندرة (الكمامات) وأجهزة التنفس الاصطناعي . وبالمقابل تقع إيران التي شغلت العالم بأسلحتها النووية وبحرسها الثوري، تقع تحت رحمة الفيروس الصغير، وهو ما يدفعها الآن للصراخ بأن العقوبات الأمريكية تحد من قدرتها على هزيمة الفيروس، وكانت إيران في وقت سابق تجتهد في إقناع العالم بأنها الدولة التي تتحدى أمريكا وعقوباتها الاقتصادية وأن ذلك لن يمنعها ذلك من التغول في عموم المنطقة الشرق أوسطية.

جيش السودان الأبيض
حين اندلع الحراك الثوري في السودان ضد النظام البائد، لم يكن وقتها الأمن السوداني ولا الدعم السريع ولا القوات المسلحة ولا الشرطة، هم من ثاروا ضد النظام ، لكن كان كوادر القطاع الصحي هم من أرهقوا النظام المخلوع وهم من قادوا الحراك الثوري ضده، بل هم من نظموا الصفوف الجماهيرية، وهم من أجبروا قوى المعارضة السودانية للتوحد في خانة واحدة لإسقاط النظام. وربما بسبب تلك المشاكل المزمنة في القطاع الصحي، أصبح الأطباء أو ما يعرفون بجيش السودان الأبيض في مواجهة النظام المخلوع، كونهم المعنيين بالمخاطر في المقام الأول، وتتسرب من بين أيديهم أرواح المرضى بسبب النقص في الخدمات العلاجية. وهو ذات الأمر الذي دفع لجنة الأطباء المركزية وقتها، إلى إعلان الإضراب في مستشفيات السودان والعيادات المحولة، إضرابًا عن الحالات غير الحرجة فقط، بعد أن تسببت مشاكل القطاع الصحي في تعرضهم للشتم والسب والضرب المؤذي في أحيان كثيرة من قبل المرافقين والمرضى، وبسبب نهج الدولة، إلى جانب مشاكل الدواء والعلاج وسوء التشخيص. ولا زال الأطباء هم الأكثر دراية على تشخيص أزمات القطاع الصحي المتمثلة في نقص الكادر الصحي بسبب الهجرة وضعف الأجور، وتردي البيئة الصحية داخل المستشفيات، وعدم سيطرة الحكومة على المرافق الحكومية وإهمالها، بجانب تلك الخصخصة التي أفرزت عن بروز تُجار الأزمات والاستثمار في صحة المواطن.

 

       عبدالناصر الحاج

الخرطوم: (صحيفة الجريدة)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى