الطيب مصطفى

الراهن السياسي بين الغيبوبة وروح القطيع!

> رغم تحفظي الأولي على اتفاق الأمس بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، إلا أنني ومنبر السلام العادل، لم نخرج برأي نهائي حول ما جرى انتظاراً لمزيد من المعلومات ولكني رغم ذلك لا أزال مندهشاً من إصرار المجلس العسكري على الاجتماع بقوى الحرية والتغيير والاستجابة لها دون غيرها رغم علمه أنها لا تمثل سوى مجموعة محدودة حتى لو كانت أكثر فاعلية وثورية من غيرها من القوى والأحزاب والحركات الأكثر جماهيرية والأقوى شوكة وتأثيراً!

> أعلم وأقدر الضغط الهائل الذي يتعرض له المجلس العسكري من الشارع (الشبابي) والمجتمع الإقليمي والدولي والإعلام الخليجي، ولكني لن أفهم أن يتنازل عن مسؤوليته عن المآلات الكارثية التي قد تنجم عن رضوخه لتلك الضغوط وأخشى ما أخشاه أن يتكرر سيناريو نبفاشا وما أدراك ما نيفاشا، بل أخشى من الأسوأ: أن ننجر الى سيناريوهات أخطر نرى نذرها في محيطنا الإقليمي الملتهب.

> للأسف فإن قوى الحرية والتغيير التي، جراء غفلة ظلت تمسك بتلابيبها، بل بخناقها وغرور طغى على تصرفاتها، لا تزال تتوهم أنها مركز الكون ومالكة قراره وأنه لا معقب لحكمها خاصة وقد نجحت في تنظيم مسيرة ضخمة في الثلاثين من يونيو الماضي يخطئ ويكذب من ينتقص من تأثيرها وحجمها فضلاً عن أنها حظيت بكثير من السند الإقليمي والدولي، مما زاد من انتفاشها وغرورها!
> أرجو أن أحيلكم الى المقال التالي الذي أعيد نشره بتعديلات قليلة خاصة في خاتمته، اقتضتها التطورات السياسية الأخيرة وذلك نظراً لأهمية المعلومات التي تضمنها:
> أقولها بملء في إن مؤيدي قوى الحرية والتغيير قد ظلموا وكذبوا حين قالوا إنها، وقد بادرت واختطفت الهبة الجماهيرية التي اشتعلت في القضارف والدمازين وعطبرة احتجاجاً على الضائقة الاقتصادية الطاحنة وحولتها الى حراك سياسي، هي الجديرة بأن ترث النظام السابق وتستلم منه السلطة وتعتمد ممثلاً وحيداً للشعب السوداني وللثورة السودانية، بل وأن تمنح تفويضاً بأن تقصي من تبغض او من لا يروق لها من القوى والأحزاب السياسية والحركات المسلحة.

> فليقولوا لي أين حدث ذلك في الممارسات السياسية السابقة سواء في السودان او خارجه؟!
> من يبادر ويفعل ما فعله تجمع المهنيين السودانيين وهو يقود الحراك لا تمنح عضويته صوتين في الانتخابات ولا يحظى بمعاملة تفضيلية، إنما يسجل دوره وقيادته لذلك الفعل السياسي ويحمد عليه في سجلات وأضابير التاريخ لا أكثر.

> لكن ما حدث في السودان من اعتماد قوى الحرية والتغيير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب السوداني توطأ له الأكناف ويجلس معه المجلس العسكري آناء الليل وأطراف النهار دون غيره من قوى وأحزاب وحركات وتحالفات وكيانات السودان، لهو أمر غريب وعجيب بحق، على أن الأعجب منه ليس انسياق المعتصمين خلف تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير، إنما التبعية العمياء لكثير من النخب والكتاب لذلك التحالف رغم أخطائه الكارثية وسلوكه الإقصائي الدكتاتوري الذي يوشك أن يقود السودان الى حريق كبير لا يبقى ولا يذر .

> إنها حالة غريبة عبر عنها المفكر الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه: (سايكولوجية الجماهير) حيث خلص الى أنه (في زمن الثورات إياك أن تقدم النصح للجماهير.. إياك أن تدخل معهم في جدل منطقي وإياك أن تطلب منهم التعقل او الوعي) ثم قال: (إن من أهم خصائص الجماهير هو انطماس شخصية الفرد وانخراطه في شخصية الجمهور والذي يترتب عليه تخليه عن عقله الواعي ومنطقيته حتى يتماشى معهم إذ إنه ليس من السهولة السباحة عكس التيار)!

> ومضى لوبون الى القول إن طغيان العاطفة والحماسة على مشاعر الفرد تجعله (في حالة تلقي للأفكار لا إنتاجها ولذلك تنتشر فيه الإشاعات غير المنطقية وتتعالى ظاهرة التحريض التي تصبح مرضاً معدياً يسري كالنار في الهشيم)!
> ذلك ما حدث في الثورات جميعاً سواء الفرنسية التي عبر عنها شارلس ديكنز في كتابه (قصة مدينتين) A tale of two cities او في ثوراتنا السودانية خاصة الحالة الثورية الحالية.

> كان أكثر ما استثارني في سرد لوبون استشهاده بنابليون بونابرت الذي ظلت الجماهير الفرنسية تصفق له حتى وهو يلغي الحريات ويحكم بيد من حديد رغم أنه جاء بعد ثورة قدمت الكثير من التضحيات إلا أنها قبلت من نابليون أن يحكمها بذات أساليب القهر والطغيان الذي مارسه لويس السادس عشر!

> بالـله عليكم قارنوا بين قهر النظام السابق وبين ما تمارسه علينا قوى الحرية والتغيير من إقصاء وظلم وعزل وطغيان وخروج على القانون من جهة وبين الثورة الفرنسية التي عبر عنها لوبون بملاحظات ذكية تلخص طبعاً إنسانياً عابراً للقارات لا يختلف من شعب الى شعب ومن جيل الى جيل.. إنه طبع القطيع الذي يحط من قدر الإنسان الذي أراده خالقه حراً في تفكيره لا سائمة تساق حتى من قبل طفل صغير لا يدري ما يفعل!

> عجيب وغريب بحق أن يسلم معظم كتابنا أن من حق تجمع المهنيين او قوى الحرية والتغيير أن تحصل على كل السلطة التشريعية على مدى ثلاث او أربع سنوات (انتقالية)! وذلك حين سلموا كالصم البكم العمي أن من حقها أن تمنح أكثر من ثلثي البرلمان وأن تجيز توزيع حتى النسبة المتبقية التي تقل عن ثلث البرلمان على من ترضى عنهم من (الأتباع) بحيث تمارس سلطة مطلقة على السلطة التنفيذية، بل والسيادية التي أصرت قوى الحرية والتغيير وشريكها الشيوعي الذي بات في غفلة من الزمان والتاريخ يتحكم في مصير كل السودان ..أصرت أن يكون تحت سطوتها رغم سلطاته المحدودة!

> ليس ذلك فحسب، فقد سكت معظم الكتاب كما سكتت الصحافة ولا أقول المعتصمين الذين انطبق عليهم كلام لوبون بصورة أكثر تعبيراً من الحالة الفرنسية سيما وأن معظمهم شباب لا يعلمون حقيقة ما يحدث وربما لم يطلع كثيرون منهم على صحيفة واحدة على مدى الأشهر الأربعة الأخيرة.. سكتوا عن جريمة إغلاق الشوارع والكباري ويا لها من جريمة!

> نعم.. إن أكثر ما استثارني الصمت المطبق الذي يعيش بين جدره المعتمة كبار الصحافيين وهم كالمخدرين أمام إغلاق الشوارع والكباري والسكة الحديد، بل وهم يرون الشباب والصبية يطاردون الرجال والنساء في الشوارع، بل وفي بيوتهم ويهدمون أسوار جامعة الخرطوم لكي يصنعوا منها المتاريس ويستأجرون الشاحنات لتأتي بالصخور والحجارة من خارج العاصمة لتلقى أثقالها وتكبها في شوارع الخرطوم الرئيسة ويقتلعون الإنترلوك ويعطلون حياة الناس والناس جميعاً في ذهول وكأن على رؤوسهم الطير!

> بربكم أيهما أجدر بثقة القوى والأحزاب والحركات المسلحة خارج منظومة قوى الحرية والتغيير، المجلس العسكري ام قوى الحرية والتغيير التي مارست عليهم القهر والإقصاء الآن فكيف بالمستقبل بما فيه الانتخابات التي سيضعون قانونها ويختارون مفوضياتها؟!
> لذلك فإنني والـله لن أتردد في أن أعلنها مجدداً أنني أطلب من المجلس العسكري، رغم ما أبرم من اتفاق (إطاري) منقوص،

إلا يرضخ لتحالف واحد مهما بلغت قوته كما أطلب من قوى التغيير أن تتخلى عن منهجية الإقصاء الاستبدادية القائمة على الأنانية وشح النفس الإمارة بالسوء فكلا الطرفين، خاصة قوى الحرية والتغيير، سيتحملان المسؤولية وليعلما أن ذلك لن ينتج سلاماً او استقراراً، إنما نخشى أن يحدث اضطراباً واحتراباً، أخشى أن ينزلق ببلادنا الى فتنة عمياء لا تبقي ولا تذر، بعد أن استبشرنا أن هذه الثورة ستنقل بلادنا الى بر الأمان والسلام والحكم الراشد.

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى