تحقيقات وتقارير

الإستقطاب السياسي.. الغام في طريق الثورة

الناظر اليوم بعين المراقب المتفحص للمشهد السوداني على صعيده السياسي، يدرك بوضوح تام أن ثورة 19 ديسمبر الشعبية الجماهيرية السلمية، تمر اليوم بمطبات كثيرة وتحديات كبيرة وجملة من المهددات التي تستهدف إخماد جذوتها، والحيلولة دون بلوغ أهدافها. ولعلنا من خلال هذا التحليل نقدم بعض صور الاستهداف والتحديات التي تواجه الثورة اليوم وهي صور منسوخة على مايبدو من أخرى قديمة كانت جزءاً من أدوات الصراع السياسي التي حفلت بها الساحة السياسية السودانية خلال الثلاثة عقود الماضية وأصبحت مألوفة المصدر الذي يعمل بعقلية الاستقطاب السياسي والأمني الحاد، بُغية إضعاف الخصوم باستنساخ جسم موازي « منهم « والعمل على شق صفهم ومن ثم اختراق كياناتهم وتنظيماتهم. ولعل هذا ما حدث خلال الثلاثين عاماً الماضية للأحزاب السياسية المعارضة لحكومة المؤتمر الوطني ونظامها المخلوع، وهو نفسه ما يحدث الآن لقوى الحرية والتغيير التي وجدت نفسها بعد ثلاثة عقود أمام ذات العقلية التي أطاحتها ثورة 19 ديسمبر المجيدة في الحادي عشر من أبريل الماضي..كيف حدث ذلك ولماذا، وماهي الجهات التي تستهدف الثورة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال هذه القراءة :
أخطر المهددات:
بإلقاء نظرة شاملة على المشهد السياسي، تبدو هناك عدد من المهددات والمخاطر والعقبات التي تواجه الثورة الشعبية السلمية في البلاد وتعمل للحيلولة دون بلوغ أهدافها، لجهة أن نجاح الثورة بشكل كامل يعني انتقال السلطة للمدنيين وقيام دولة مدنية يسود فيها حكم القانون، ومن ثم القضاء على بؤر الفساد ومحاكمة كل المفسدين والترسيخ للحكم الرشيد الذي يتم فيه فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تماماً، والتحول للحكم الديمقراطي المنشود. ومن أبرز هذه المهددات التي أشرتُ إليها:
الاستقطاب السياسي :
تشهد الساحة السياسية حالياً حالة حادة من الاستقطاب السياسي، وهو اسلوب لجأ إليه المجلس العسكري في مواجهة قوى الحرية والتغيير، ومن أبرز نتائج هذا الاستقطاب السياسي الحاد يمكن الإشارة إلى الآتي:
1/ محاولات استنساخ قوى شبابية ثورية جديدة توازي قوى الحرية والتغيير، ولعل هذا ما حدث بالفعل خلال اليومين الماضيين برعاية وسائل الإعلام الرسمية (سونا، التلفزيون، قناة النيل الأزرق)، مما يعني استئثار هذه القوى الثورية المصنوعة باهتمام السلطات الرسمية التي تهيمن على الأوضاع حالياً.

2/ تجميع القوى السياسية التي كان قد صنعها المؤتمر الوطني واستنسخها من الأحزاب المعارضة الفاعلة في الساحة السياسية، بهدف إضعاف خصومه السياسيين وتقليم أظافرهم وقصقصة أجنحتهم ونتف ريشهم. فالأمر بات واضحاً أن هناك حالة تجميع لهذه القوى في صعيد واحد تحت مسمى (القوى الوطنية)، وقد أفردت لها وسائل الإعلام الرسمية خلال اليومين الماضيين مساحة واسعة جداً ربما تفوق المساحة التي كان يستحوذ عليها حزب المؤتمر الوطني في وسائل الإعلام الحكومية، مما يعني رعاية السلطات الرسمية لهذه القوى التي كانت حتى الحادي عشر من أبريل جزءاً من النظام المخلوع.
3/ ومن نتائج الاستقطاب السياسي الذي عمدت إليه السلطات أيضاً إعادة التنظيمات النقابية التابعة للمؤتمر الوطني ونظامه المخلوع للاستقواء بها في مواجهة قوى الحرية والتغيير، لقطع الطريق أمام العصيان المدني والإضراب السياسي، الأمر الذي وسَّع مساحة الشكوك في المجلس العسكري وعلاقته بالنظام المخلوع.

4/ حشد تنظيمات سياسية من واجهات حزب المؤتمر الوطني والتيار السلفي والإدارات الأهلية والطرق الصوفية لتأييد المجلس العسكري، وإبراز ثقله السياسي وحجم تأييده وذلك من خلال لافتة مبادرة أهل السودان أو مبادرة التوافق السياسي، وذلك على طريقة المؤتمر الوطني في الحشود والاستقطاب.
5/ ظهور كتابات صحافية تزامنت مع أشكال الثورة المضادة وحالة الاستقطاب تمارس أقصى حالات الضغط على المجلس العسكري تدعوه إلى التراجع عن الاتفاق الذي أبرمه مع قوى الحرية والتغيير، وتحاول في نفس الوقت التقليل من قوى الحراك الثوري والتأكيد على أنها لا تمثل الشعب السوداني، فيما أمعنت بعض الأقلام في اتهام قوى الحراك كلها بأنها واجهة للحزب الشيوعي رغم شمولية الثورة وتمثيلها لكل قطاعات المجتمع من خلال كثرة وتنوع اللافتات التي كانت بارزة بساحة الاعتصام بالقيادة العامة، لكن رغم ذلك لوت هذه الأقلام غير الأمينة عنق الحقيقة واختزلت الثورة كلها في الحزب الشيوعي واستدعت عداءها التاريخي لهذا الحزب وأفرغته في الثوار وقوى التغيير.
التساهل مع فلول النظام المخلوع:
ومن أكبر التحديات والمهددات التي تواجه الثورة اليوم، هو حالة التساهل مع رموز النظام المخلوع، حيث سُمح للكثيرين منهم بالسفر رغم قرار منع سفر المسؤولين وإغلاق المطار في وجوههم، هذه الحالة من التساهل وعدم التأكيد على أنهم معتقلين ومُشدد على حراستهم، أوجد حالة من الاسترخاء لدى كل رموز النظام المخلوع مما قد يتيح لهم فرصة التآمر على الثورة والانقضاض عليها. ولعل هذا التساهل مع رموز النظام المخلوع أوجد نتائج يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
(1) إيجاد حالة من الاطمئنان في أوساط أنصار وقيادات النظام المخلوع مما قد يدفعهم للتخطيط لإجهاض الثورة.

(2) وجود قرينة لتسلل عناصر تابعة للنظام المخلوع في أوساط القوة العسكرية التي فضت الاعتصام بالقيادة العامة وارتكبت مجزرة راح ضحيتها العشرات من المعتصمين السلميين.
(3) ما تردد عن اعتقال عدد من الضباط من أنصار النظام المندحر والحديث عن قيامهم بمحاولة انقلابية، هذه كلها نتائج لحالة التساهل التي اتبعها المجلس العسكري مع رموز النظام المندحر، ولو أن المجلس قدم أيّاً من رموز النظام المخلوع إلى محاكمة مفتوحة كما هو الحال اليوم في الجزائر في حال كل الثورات الشعبية التي تحدث في العالم، لما كان المجلس يواجه اليوم الاعتصامات والمتاريس والتمترس خلف المواقف التي تبدو متشددة، والتي خلقتها حالة عدم الثقة للأسباب التي سبقت الإشارة إليها.
ضيق الأفق السياسي:
كثير من الملاحظات والمعطيات تشير إلى أن الخلافات والتقاطعات التي ظهرت في أوساط قوى الحرية والتغيير، أغرت خصومها وشجعتهم على اختراقها والعمل على توسيع نقاط الخلاف.
ومن أمثلة ذلك، ظهور حملات إعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي والصحف تُمعن في شتم إمام الأنصار الصادق المهدي وتلعن حزب الأمة وتُصوره على أنه مُخذِّل وذلك للإيقاع بينه وزملائه في قوى الحرية والتغيير، وقادت هذه الحملة جهات مستفيدة من القطيعة بين قوى الحرية وحزب الأمة الذي هو جزء منها وموقع على ميثاقها، وقادت الحملة ضد حزب الأمة أيضاً قوى من داخل قوى التغيير لأسباب تتعلق بعداء تاريخي بينها وحزب الأمة، هذه الخلافات والخوض فيها كان من أبرز التحديات والعقبات والمهددات التي أضعفت بريق الثورة، واذا ما استمر هذا الخلاف يمكن أن يفعل بالثورة ما لم يستطع المؤتمر الوطني فعله..ثمة أمر آخر وهو ضيق الأفق السياسي لدى بعض المحاورين من قوى الحرية والتغيير وغياب الحنكة السياسية والانحراف نحو الرغبة في الانتقام والمرارات السياسية خلق الشعور بالخوف لدى المجلس العسكري الذي لجأ نتيجة لهذا الشعور إلى الاستقواء بقوى سياسية أخرى على النقيض من قوى الحرية والتغيير، وجعل المجلس أكثر تمسكاً بالصلاحيات السيادية والهيمنة الكاملة على السلطة السيادية، ربما لحماية نفسه من أية مهددات خاصة في ظل الحديث السائد بأنه جزء من النظام المخلوع، مما خلق حالة من الاستقطاب السياسي الحاد الذي سبقت الإشارة إليه، وهذا الاستقطاب والتنازع حول السلطة السيادية، ربما يدفع المجلس إلى التفكير في تجاوز قوى التغيير وتشكيل حكومة مدنية من القوى التي أيقظها المجلس الآن بعد موات، وهي قوى صنعها المؤتمر الوطني وشريكته في النظام حتى الحادي عشر من أبريل الماضي وكثير منها يشارك المؤتمر الوطني والنظام المخلوع جرائمه السياسية والاقتصادية، فهي والنظام المخلوع سواء بحكم مشاركتها ولكونها جزءاً من النظام المندحر حتى لحظة سقوطه.
أكبر تهديد للأمن القومي:
وفقاً لكثير من القراءات والمعطيات وقرائن الأحوال فإن المجلس العسكري إذا ما استمر في سياسة الاستقطاب والاستنصار بالقوى المشاركة في النظام المخلوع والتي صنعها بيديه ومضى في تشكيل حكومة مدنية منها وتخطى قوى الحرية والتغيير، فإن تعقيدات المشهد ستصل ذروتها وتبدو كل الاحتمالات والسيناريوهات الأسوأ ورادة بنسبة كبيرة جداً، مما قد يشعل ثورة أكبر ولايدري أحد على وجه الدقة ما إذا كانت ستسعتصم بالسلمية مثل سابقتها أم تلجأ إلى أسلحة أخرى غير السلمية..وهذا ما لا يتمناه أحد لبلاده، لذلك تظل الكرة في ملعب المجلس العسكري، فإما أن يهوي بالبلاد في أتون الحرب الأهلية والعنف على النحو الذي جرى في سوريا وليبيا، أو يحملها إلى بر الأمان ويسلم البلاد إلى حكومة مدنية يكون المجلس جزءاً منها بحكم وظيفته الأمنية وبحكم مشاركته في إنجاح الثورة.
سياسة المحاور:
ومن المخاطر والمهددات التي تواجه الثورة حالياً سياسة المحاور. ولعل ذلك يبدو واضحاً خاصة في الفترة الأولى لنجاح الثورة، خاصة بعد الزيارات الماكوكية التي قام بها قادة المجلس العسكري لدول بعينها مثل السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة. صحيح أن السودان الآن بحاجة إلى مساعدات إقليمية ودولية، ولكن سيكون ضرر هذه المساعدات أكبر من نفعها إذا ارتبطت بإملاءات خارجية وفرضت شروطاً تؤثر على السيادة الوطنية وحرية القرار السياسي بما يخدم مصالح البلاد.
المخرج والحلول:
تقول كثير من المعطيات المستبصرة أنه لامخرج من هذا النفق الذي وضعت فيه البلاد بعد نجاح الثورة والإطاحة بنظام البشير، إلا قطع الطريق عن حالة الاستقطاب السياسي وإغلاق الباب أمام القوى السياسية المتربصة بالثورة والمتآمرة عليها والتي تسعى لإجهاضها وإخماد جذوتها، وقطع الطريق أمام محاولاتها لإنتاج نظام فاسد وفاشل جديد بممارساته السياسية الفاسدة، مثل الذي كانت تشارك فيه تماماً قبل الحادي عشر من أبريل، والعمل على تسليم السلطة لحكومة مدنية يكون المجلس العسكري جزءاً منها وليس مهيمناً عليها.

تحليل : احمد يوسف التاي

الخرطوم (صحيفة الانتباهة)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى