تحقيقات وتقارير

مذابح الإنقاذ..شهداء سبتمبر و بورتسودان..خمسة نافذين في قفص الاتهام

معتصم واسم شهرته «وارغو» شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، حباه الله بموهبة فذة في لعب كرة القدم، كان وهو لاعب لنادي وادي النيل أحد أندية الخرطوم العريقة هدفاً لقمة الكرة السودانية، في العام 2013 خرج مثل غيره من المواطنين الغاضبين إلى الطرقات مندداً برفع الدعم عن المحروقات، غير أن رصاصة غادرة انطلقت من فوهة بندقية نظامي تجرد قلبه من الرحمة أصابته في مقتل ليلفظ في مستشفى بشائر أنفاسه الأخيرة، مودعاً الحياة قبل أن يكمل مشواره الكروي وتاركاً خلفه حزناً عميقاً في دواخل والدته والتي وللمفارقة تدعى «صابرة» التي طرقت بصبر كافة أبواب العدالة للقصاص غير أنها أُوصدت في وجهها مثل غيرها من شهداء كثر سقطوا برصاص النظام السابق الذي ذهب غير مأسوف عليه، ولكن تظل المطالبة بالقصاص جملة تجري على ألسنة كل الذين فقدوا أعزاء على يد القوات الأمنية والشرطية.

سبتمبر ..210 شهيداً

كثيرة هي المذابح التي ارتكبها النظام البائد الذي كان دموياً وعنيفاً إلى أبعد الحدود ضد من يفترض به حمايتهم وتوفير الحياة الكريمة لهم ،وتحفظ أوراق التاريخ بمداد من دماء الشهداء الكثير من الاغتيالات التي نفذها بدم بارد دون أن يرمش لقادته جفن أو يرق لهم قلب، وفي إطار حلقاتنا عن جرائم النظام البائد نبتدر سلسلتنا هذه بالجريمة الكبرى التي ارتكبها بحق مائتين وعشرة مواطنين في العام 2013 وهي تعتبر من أكثر الجرائم إيلاماً، وفي شهر سبتمبر من العام 2013 تعامل بعنف مفرط ضد المتظاهرين الذين أرادوا ممارسة حقهم الدستوري في التظاهر ولكن من كانوا يوفرون الحماية للطاغية المعزول عمر البشير، وبدلاً عن الإنصات إليهم أمطروهم بوابل من الرصاص تسبب في مقتل 210 شهيداً معظمهم من الشباب الذين انتاشهم قناصة لإيقاف تمدد ثورتهم الغاضبة التي كادت أن تقتلع وقتها النظام من جذوره، ومثّل ملف شهداء سبتمبر امتحاناً حقيقياً للنظام البائد الذي ظل وبعد أن تلطخت يداه بدماء الشهداء يرفض الاعتراف بجريمته، غير أنه و بعد تمنع وتمترس ونفي اشتهر به، أقر بعد مرور عامين بمسؤوليته عما حدث إبان الاحتجاجات الشعبية .

طرق متواصل

اعترف نعم بارتكابه لتلك المذبحة ولكنه وبالرغم من ذلك فإن الأصابع الغليظة لأسر الضحايا التي كانت تطرق على أبواب اجهزته القضائية والشرطية والنيابية إلا أنها لم تفلح في النفاذ إلى ما وراء ما استحكم إغلاقه باستثناء قضية وحيدة نظرتها المحاكم وبرأت فيها المتهم وسط رفض من الأسرة للحكم الصادر، وتحت الضغط المحلي والدولي لم يجد النظام البائد غير الاعتراف في كثير من المناسبات وعلى أعلى المستويات بسقوط ضحايا حدد رقمهم ببضع وثمانين شهيداً فيما أكدت إحصائيات غير حكومية بتخطيهم حاجز المائتين، ولم يجد رأس النظام البائد وفي خطة مثلت اعترافاً حقيقياً بمسؤولية قتل أكثر من 200 مواطن غير التوجيه بتعويض أسر الضحايا فضلاً عن معاقبة المعتدين وتقديمهم للمحاكمة، ووقتها دخل البرلمان المحلول على الخط بقوة بمطالبة عدد من عضويته بتقديم المتورطين في تظاهرات “سبتمبر” لمحاكمات علنية، مع عدم الالتفاف على الملف بإعلان دفع الديات والتعويضات لأسر الشهداء قبل المحاسبة، ووقتها تعهد وزير العدل، عوض الحسن النور، بتنفيذ توصيات مجلس حقوق الإنسان بمحاسبة الجناة كأولى أولويات الحكومة، واستكمال التحري في القضايا التي رفض أهالي الضحايا إغلاقها في مقابل الديات وأعلن اعتزامهم رفع الحصانة عن متهمين وذلك توطئة لتقديمهم إلى القضاء ، وحدّد النور عدد الضحايا بـ (86) شهيداً، غير أن حكومة الاسلاميين التي ظلت تدمغ طوال فترة حكمها البالغة 30 عاماً إلى أن أزاحتها ثورة شعبية عارمة في الحادي عشر من شهر أبريل من هذا العام، ظلت تمارس الخداع والتسويف بل ورفض جهاز الأمن والشرطة رفع الحصانة عن أفرادهما المتورطين في مقتل المتظاهرين وعجزت وزارة العدل في استرداد الحقوق إلى أهلها بمحاكمة الضالعين في هذه الجريمة والتي أعادت الثورة فتحها حينما طالبت أسر شهداء سبتمبر من المجلس العسكري فتح هذا الملف لتقديم الجناة إلى المحاكمة، ويؤكد عدد من أسر شهداء سبتمبر أن المسؤولية تقع بشكل مباشر على والي الخرطوم وقتها عبدالرحمن الخضر بحكم أنه رئيس لجنة أمن الولاية، بالإضافة إلى مدير جهاز الأمن والمخابرات في ذلك الوقت علاوة على مدير الشرطة الفريق هاشم عثمان، وفي ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة فإن متظاهرين حملوا لافتات تطالب بمحاكمة الثلاثي لجهة أنه كان المسؤول عن الأمن والشرطة وإدارة ولاية الخرطوم .

أحداث يناير ببورتسودان.. أكثر من عشرين شهيداً

أما الجريمة الثانية التي ارتكبها نظام الإنقاذ في حق مواطنين عزّل، فقد كانت بولاية البحر الأحمر التي ورغم مضي أربعة عشر عاماً على اندلاع الاحتجاجات الشعبية المطلبية التي شهدتها مدينة بورتسودان في 29 يناير 2005م، والتي سقط خلالها مائة مواطن بين قتيل وجريح، رغم مضي هذه السنوات إلا أن الحزن لا يزال يسيطر على أسر الضحايا وقطاع واسع من مواطني المدينة الساحلية، الذين ظلوا يحرصون على تجديد ذكرى تلك الأحداث سنوياً تأكيداً لوفائهم لدماء وأرواح بذلت من أجل قضايا المنطقة.

أحداث دامية

أكثر المتشائمين في شتاء يناير من العام 2005، لم يتوقع أن تتسبب مذكرة مطلبية وقف من خلالها أحد عشر من أبناء البجا على رأسهم الزعيم شيبة ضرار، في تطور الأحداث بصورة دراماتيكية تقود إلى مقتل وإصابة العشرات من المحتجين، ورغم نجاح الثورة البيجاوية في تحقيق مكاسب لاحقة للإقليم عامة، والبحر الأحمر على وجه الخصوص، إلا أن جرحها لا يزال نازفاً بداعي أن الفاعل مجهولاً أو بالأحرى لم يتم تقديمه لمحاكمة رغم أن المحكمة الدستورية وجهت أصابع الاتهام صوب القوات النظامية، تتلخص وقائع الأحداث التي راح ضحيتها 21 مواطناً وجرح على إثرها 89 آخرون، بحسب أوراق التاريخ ومذكرات القانونيين الذين يترافعون في هذه القضية وعلى رأسهم المحامون رفعت عثمان مكاوي، نجلاء محمد علي، ومحمد إبراهيم عبد الله، أنه وبتاريخ التاسع والعشرين من شهر يناير عام 2005، خرج المواطنون ببورتسودان إلى الشارع في مظاهرة سلمية تحمل مذكرة تحوي قائمة من المطالب لإثنية البجا، وتصدت لها القوات النظامية ليحدث صدام أودى بحياة 21 مواطناً وخمسين جريحاً، ويتهم محامو أسر الضحايا القوات النظامية التي تصدت للمتظاهرين بمخالفة المواد 124،125،126 لقانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991، ويدمغونها بارتكاب قتل خارج القانون بمخالفة المادة 130ـ21 القانون الجنائي، وأنه وبحسب هذه الدعوى أجرت النيابة والشرطة تحقيقاً، وقد اتضح أن الفقداء ماتوا رمياً بالرصاص من قبل قوات تتبع للدولة، إلا أنه لم يتم فتح دعوى جنائية من قبل النيابة والشرطة، ولو ضد مجهول.

لجنة تحقيق

بعد ذلك تدخل وزير الداخلية وقتها عبد الرحيم محمد حسين وأصدر قراراً بتشكيل لجنة تحقيق تضم اثنين من وكلاء النيابة وقاضياً، وأكملت اللجنة تقريرها وسلمته للحكومة، وبموجب تقرير تلك اللجنة دخلت الحكومة في تفاوض مع ذوي المجنى عليهم بغرض التسوية، وهذا بحسب المحكمة الدستورية التي أصدرت قرارها في العام 2015 يعتبر (إقراراً ضمنياً بأن من قام بقتل المجني عليهم يتبع لوزارة الداخلية، ولاحظت المحكمة الدستورية أيضاً في نفس الحكم حول ذلك التحقيق بأنه تم إجراء تحقيق رسمي في هذه الحادثة لم يفصح عن نتائجه حتى الآن لسبب ما وبأمر من جهة ما.

طريق العدالة

لتواصل أسر الضحايا المضي في طريق العدالة وتقدموا عبر المحامين بدعاوى لفتح بلاغ، إلا أن وكيل النيابة رفض حسبما جاء في قراره بتاريخ الثالث عشر من فبراير من العام 2011، ليتقدموا باستئناف إلى وكيل أول النيابة الذي أيضاً رفضه بتاريخ الأول من مارس من ذات العام بدعوى أنه جاء خارج القيد الزمني، وذات الرفض جاء من وكيل النيابة الأعلى ورئيس النيابة العامة وتم إصدار قرار بحفظ الأوراق وذلك في الثلاثين من مارس عام 2011، وهذا القرار وجد تأييداً من المدعي العام لجمهورية السودان في السادس من يونيو.

العدل ينتصر

إلا أنه وبتاريخ 5/7 /2015 أصدرت المحكمة الدستورية قرارها بالنمرة 2/ق/ 139/ الذي ألغت بموجبه كل القرارات الصادرة من النيابة العامة، وأمرت بفتح دعوى جنائية باسم الطاعنين ضد من تسفر عنهم التحريات وتقديمهم للقضاء، وبعد صدور ذلك القرار من المحكمة الدستورية تقدم الطاعنون بطلب للمدعي العام بفتح دعوى جنائية وتنفيذ القرار المحكمة الدستورية، والسماح لممثلي الطاعنين بالاطلاع على محضر التحقيق، ثم قبول طلب بفتح الدعوى الجنائية وفقاً لأحكام المادة 130/21/ من القانون الجنائي لسنة 1991، إلا أنه تم رفض طلب الاطلاع على محضر التحقيق في قرار المدعي العام بالرقم د ع 42 نقض 332 بتاريخ 12/12/2015م، وبتاريخ 3/1/2016م قام وكيل النيابة المباشر في ولاية البحر الأحمر محلية بورتسودان، بإخطار الأستاذة نجلاء محمد علي ممثلة الشاكين، شفاهة بأنه تم فتح دعوى جنائية بقسم ديم عرب وطلب إحضار الشاكين والشهود أمام المتحري، وعندما سألته الأستاذة نجلاء عما إذا كان محضر تحقيق لجنة وزير الداخلية ضمن أوراق البلاغ، أجاب بالنفي.

تقرير وزير الداخلية

ويشير محامو أسر الضحايا إلى أن محضر لجنة وزير الداخلية جزء لا يتجزأ من التحريات، لأنه تم وفقاً لقانون الإجراءات الجنائية لوقوع فعل القتل وصدور الأوامر بدفن الجثث، وأنه يشمل بينات مباشرة وقوية من أدلة الإثبات سجلت بواسطة قاضيين ووكيل نيابة، ويحدد بوضوح هُوية المسؤولين عن فعل القتل، لذلك تقدم الشاكون بواسطة محاميهم بتاريخ 5/1/2016 بطلب ضم محضر تحقيق وزير الداخلية إلى محضر البلاغ أمام وكيل النيابة المباشر، إلا أنه وبحسب مذكرة المحامين لم يستجب لذلك الطلب، وتم أمر الشرطة بعرض الأوراق التي تخلو من محضر تحقيق وزير الداخلية، ويأمل محامو أسرة الضحايا بضم تقرير لجنة التحقيق التي كونها وزير الداخلية إلى محضر القضية لأنها تعد بينة توضح كافة التفاصيل لأن رفض تقديمه حسب وجهة نظرهم يعد تستراً لإخفاء معالم القضية ،ونجحت ثورة التاسع عشر من ديسمبر في إعادة هذا الملف مجدداً إلى الواجهة ولا يزال أهل الشهداء ينتظرون تقديم المتهمين للمحاكمة، وهنا يأتي على رأسهم وزير الداخلية وقتها عبدالرحيم محمد حسين ووالي البحر الاحمر حاتم الوسيلة.

تقرير : صديق رمضان

الخرطوم (صحيفة الإنتباهة)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى