ناهد قرناص

السادة في شارع القيادة

كانت ترتدي ثوبا ناصع البياض …امرأة في اواخر الخمسينات من عمرها ..اختط الزمن على وجهها خطوطا عميقة ..واكسبها عزما وتصميما كان واضحا في هتافها بأعلى صوت (حرية ..سلام وعدالة ..والثورة خيار الشعب ) ..الساعة الواحدة ظهرا …الشمس على بعد نصف متر من الرأس ..العرق يتصبب من الجميع..عندما صاح احد الشباب (يا جماعة اقعدوا في الأرض )..جلست على الرصيف بالقرب منها ..قلت لها مشفقة (الليلة التوب الأبيض حينتهي ) ..هزت رأسها وقالت (ما كتير على الناس الماتت والأرواح الفقدناها) ..فقدت القدرة على النطق ..اقشعر بدني واحسست انني صغيرة جدا لا يمكن رؤيتي بالعين المجردة ..توب شنو ولون ابيض شنو ..الناس بتموت .

عندما تحرك الموكب ..واهتزت الأرض بالهتاف ..واختلطت جماعات البشر ببعضها البعض ..فقدت للحظة من كانوا رفقتي ..تلفت حولي في جميع الجهات ولم ألمح احدا أعرفه ..لكن الخوف لم يساورني ..كانت الملامح حولي كلها سودانية مية المية (ديل اهلي )..وجدت نفسي انساق مع الجموع ..حانت مني التفاتة الى الخلف ..هالني منظر الموكب الذي امتد الى ما لا نهاية ..مد البصر ..قلت وكأنني احادث نفسي بصوت عال (ما شاء الله .شكلو فعلا نحن مليون نفر ) ..ضحكت شابة صغيرة بجانبي (لا يا خالتو ..نحن سبعين ..انت نسيتي ولا شنو ) ..تعالت ضحكاتنا ..واصلنا السير ..وفقدت اثرها بعد ذلك فقد ابتلعتها الجموع الهادرة.

بلغ بي العطش مبلغا ..تذكرت حينها السكري الذي لازمني مؤخرا ..وانتبهت الى انني لم احمل معي اي قارورة مياه ..كان يوما ساخنا بكل معنى الكلمة احداثا ودرجة حرارة ..مما جعل العطش يصيب الجميع ..واجتهد الشباب في توفير المياه ..لكن الطلب كان كبيرا ..من على البعد لمحته ..كان جنديا صغير السن ..يقف امام البوابة ..ترددت لحظة ومن ثم قطعت الطريق اليه ..مددت له بقارورة المياه الفارغة قائلة (عليك الله يا ولدي ما تديني موية ..) ..ابتسم في وجهي واخذ القارورة قائلا (جدا يا خالة ) ..شربت حتى ارتويت وكانت كلمة (خالة ) في تلك اللحظة جميلة ..ولم يعد لها ذلك الأثر الذي يجعل الدم يغلي في عروقي ..

تحت شجرة ظليلة ..اجتمعنا نحن مجموعة من النساء (الشابات) ..وبدأ السمر ..قالت واحدة (بتي كانت معاي بس ما عارفاها وين هسه ) ..يرن هاتف اخرى (استودعناكم الله الذي لا تضيع ودائعه ياولدي ..الله يغطي عليكم ) تغلقه قائلة (دا ولدي مع اصحابو قال وافقين في النفق ) ..اتت فتاة وطلبت منا صورة سترسلها الى أمها لكي تشجعها على الخروج ..كلنا شاركنا في التسجيل وارسلنا لها التحايا ..قلنا لها ان هذه الأيام هي ايام فارقة ..لا يمكن تكرارها ..هنا ستلتقي باصدقاء المدرسة ..والجيران الرحلتي منهم قبل فترة ..والزملاء الذين باعدت بيننا وبينهم سبل الحياة ..هنا كل اطياف السودان تصنع التاريخ ..لا ترحمي نفسك من هذا المجد ..لا تتأخري في الانضمام للسادة ..في شارع القيادة .

ناهد قرناص
المصدر : صحيفة الجريدة

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى