تحقيقات وتقارير

انتفاضة أبريل.. حراك ساخن ودماء قليلة

نميري استخف بالحراك الجماهيري وغادر البلاد

كيف جرت واقعة تصفية جهاز الأمن واعتقال أعضائه؟

هل كانت لنميري مصادر داخل جهاز أمنه؟

نميري تابع غضبة نواب البرلمان عبر دائرة تلفزيونية

 

 

عندما بدأ الحراك الشعبي في مارس من العام 1985، اتخذ الرئيس السابق نميري موقفاً بدا محيراً للمراقبين والمواطنين، حينما حزم حقيبته وتوجه صوب الولايات المتحدة، لإجراء فحصوات طبية روتينية، ربما تعود هذه الخطوة إلى أن النظام مر بالعديد من التظاهرات من قبل بل تعرض لانقلابات عسكرية بعضها نجح لفترة محدودة أطولها انقلاب الشيوعيين العسكريين بقيادة الرائد هاشم العطا الذي استمر ثلاثة أيام، ربما هي التي جعلته لا يلقي بالاً لتلك التظاهرات، وحتى عندما اشتد أوارها صرح لصحيفة “المصور” المصرية بثقة مفرطة قائلاً (ما في زول يقدر يشيلني)، ولم يكن يخطر أبداً على باله أن نظامه المحروس بجهاز أمني منظم استطاع أن يخترق جميع التيارات السياسية والنقابية في البلاد ويستقطب عدداً من الرموز السياسة أيضاً، أن يهتز عرشه.

 

بداية الشرارة

عندما انطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية التي عُرفت بثورة أبريل، وكان عدد من النقابات في ديسمبر (1984)، كوّنت ما عُرف بميثاق التجمع النقابي، شمل ست نقابات هي أستاذة جامعة الخرطوم، والأطباء والمحامون والصيارفة والمهندسون والتأمينات الاجتماعية.

 

بيد أن الانتفاضة كانت عفوّية، وفجّر شرارتها الأولى طلاب جامعة أم درمان الإسلامية، ثم بعد ذلك مجموعة من الطلاب في المراحل التعليمية المختلفة، كما شارك فيها ما يسمى بالشماسة، وهم الصبية المشردون وبعض العمال.

 

خطوة يائسة

وكرد فعل للتظاهرات، نظم الاتحاد الاشتراكي، التنظيم الحاكم، موكباً أسموه بموكب الردع، خاطبه عدد من رموز الحزب، شاركت فيه مجموعة قليلة من الملتزمين وبعض المواطنين، بيد أنها لم تغير واقع الأحوال، ولم تؤثر في معنويات المحتجين.

 

مزيد من الاشتعال

وبعد ثلاثة أيام، أعلنت الهيئة النقابية للأطباء، الإضراب عن العمل لمدة يومين عبر بيان أصدرته، وفي تلك الأثناء كانت العاصمة تعاني من ظلام دامس، وشلل في المرافق العامة بعد تنفيذ العصيان المدني الشامل، عدا الطوارئ في المستشفيات الرئيسة، ومظاهرات في المدن الثلاث وضواحي العاصمة.

 

وفي تلك الأجواء الملتهبة، كان يعمل في وكالة السودان للأنباء موظف وحيد هو نائب مدير وكالة السودان للأنباء المرحوم محمد حسني حواش، لتلقي أي أخبار ونقلها لجهازي الإذاعة والتلفزيون، وفي يوم الجمعة ظهراً تلقى نبأ من إدارة التوجيه المعنوي عن طريق الهاتف حمل ملخصاً خبرياً لخطاب الفريق محمد حسن سوار الذهب للوحدات العسكرية، مؤكداً على أهمية الدفاع عن ثورة مايو، لكن كانت المفاجأة للكثيرين، أن الفريق سوار الذهب هو من قام بإعلان تسلّم القوات المسلحة للحكم من براثن النظام المايوي بعد ساعات من ذلك الخطاب. ولاشك أن هذا القرار، لم يكن سهلاً على الفريق سوار الذهب، باعتباره كان حريصاً على الوفاء بالقسم الذي أداه لحماية النظام، بيد أنه تم إقناعه بواسطة القادة وعدد من الضباط من أجل القيام بالثورة حماية لاستقرار البلاد وحقن الدماء، وبما أنه كان حريصاً على تلك المبادئ وافق على قيادة العملية التي لم تتطلب جهداً كبيراً وعدم إسالة قطرة من الدماء بعد التوافُق التام بين القيادات العسكرية.

 

وحين احتدمت الثورة الجماهيرية وبات النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، شهد الفريق عمر محمد الطيب، اجتماعاً حاشداً مع قادة الوحدات العسكرية بالخرطوم طالبهم بالانضباط، وذكرهم بأن الرئيس نميري هو الرئيس الشرعي للبلاد، والذي جاء عبر انتخابات مباشرة، إلا أن هذا التحذير لم يمنع قادة هذه الوحدات بالاتفاق في أقل من أربع عشرين ساعة لإزاحة النظام في ثورة بيضاء تم خلالها اختيار المشير سوار الذهب رئيساً لمجلسها العسكري.

 

عوامل الثورة

لا شك أن العديد من العوامل، كانت وراء تفجُّر انتفاضة أبريل (85)، أهمها الأوضاع السياسية والاقتصادية وأحساس المواطنين بسطوة حكم الفرد، وربما كان تحدي نميري للجماهير قبل فترة قصيرة من الانتفاضة بأن الدولار سيصل (100) جنيه له تأثير سالب على العقل الجمعي للجماهير.

 

الوضع في الجيش

قبل ثلاث سنوات من الانتقاضة، أي في العام 1982، كان مجلس الشعب القومي في إحدى جلساته يتداول قضايا الراهن بقدرغير مألوف من الجرأة والصراحة، حيث تناول قضايا الفساد، وهم لا يدرون أنهم في تلك اللحظات كان الرئيس نميري يتابع الجلسات عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، كذلك لم يكن ضباط القوات المسلحة بمن فيهم كبار الرتب بمعزل عن ذلك التململ، فدعا نميري لاجتماع يستمع فيه لآرائهم، ففوجئ بالضباط يتحدثون بصراحة لم يتوقعها الرئيس، الأمر الذي أغضبه فأصدرقراراً بإقالتهم وإعفاء الفريق عبد الماجد حامد خليل نائبه في الرئاسة ومساعده الأول في قيادة القوات المسلحة، ولم يكن عبد الماجد ذو الميول العسكرية ميّالاً للسياسة، ولم تكن له طموحات لمنافسة نميري في السلطة، وحتى عندما أعلن نميري استقالته عبر الاجتماع السياسي العاصف بقاعة الصداقة كان يظن عدد من المراقبين أنه كان من الممكن للفريق عبد الماجد أن يقطع على نميري طريق العودة باستلامه السلطة، بيد أن عبد الماجد لم يكن يوافق على تلك الفكرة، رغم أنها كانت متاحة تماماً بحكم الشعبية التي كان يتمتع بها داخل القوات المسلحة.

 

وقام نميري بعد ذلك بتعيين رئيس جهاز أمن الدولة، اللواء عمر محمد الطيب نائباً له، حيث جمع بين المنصبين.

 

وكان عمر عندما وصل إلى هذه المناصب الرفيعة في بداية الخمسينات من عمره، بعد أن تلقى دورات في الولايات المتحدة وألمانيا والعراق، كما كان له دور بارز في قمع التمرد في جنوب السودان إبان حكم الفريق عبود والذي تم إنهاؤه لاحقاً عبر اتفاقية أديس أبابا ليندلع في العام 1983، وكان اللواء عمر المولود في منطقة الزيداب شمال السودان ثاني دفعته في الكلية الحربية، بينما كان صديقه الحميم الفريق عبد الماجد حامد خليل أول الدفعة.

 

نقل الفلاشا

لم يكن لنقل الفلاشا الأثيوبيين تأثير كبير على إشعال شرارة الانتفاضة بحكم أن الجماهير السودانية لم تكن متأثرة كثيراً بالحراك القومي في المنطقة الذي كان يقوده الرئيس جمال عبد الناصر، وكان اهتمامها أكبر بالنواحي الداخلية، لكن مع ذلك حاول نميري السير في ذلك الاتجاه فانضم لما يسمى بميثاق طرابلس للوحدة بين السودان ومصر وليبيا، في عهد الرئيس الراحل السادات، لكن لم يكن كل من السودان مصر متحمسين لبلورة تلك الأفكار العاطفية إلى واقع عملي يقفز على المعطيات الظرفية للبلدين، بينما كان يتبناها بهوس الرئيس القذافي، قبل أن تتبلور أحلامه إلى زعامة العالم العربي وتشكيله وفق نظرية الكتاب الأخضر.

 

نميري.. أزمة ثقة

وبالرغم من أن جهاز الأمن في عهد نميري، كان حامياً للنظام ببراعة، لكن فيما يبدو أن نميري كان لا يريد الاعتماد على مصادر أمنية واحدة، وقيل إن بعض الذين عيّنهم في صفوف الجهاز كان يتعامل معهم كمصادر موثوقة، كما أن النميري قام أيضاً بإقالة عدد من ضباط الجهاز عبر كشف كان يحمله، وهو داخل مبنى الجهاز وجالس على كرسي رئيس الجهاز عندما كان خارج البلاد.

 

كيف جرى حل جهاز الأمن

عندما كانت الانتفاضة مشتعلة، كانت العديد من الجماهير تهتف بحل جهاز الأمن المايوي، بالنظر إلى الصورة السلبية التي تشكلت في عقلها الجمعي، كما كانت كل التيارات السياسية تحمل ذات الرأي، ولهذا لم يكن للمجلس العسكري مناص من الموافقة على الفكرة، وأن عدداً من أعضائه كانوا غير موافقين عليها.

وفي العاشر من أبريل، كانت الجماهير قرب القيادة العامة تطالب بحل الجهاز، وهي تلتف حول سيارة يمتطيها أحد أعضاء المجلس العسكري الانتقالي بعد سقوط النظام المايوي، وفي تلك اللحظات كانت القوة المكلفة بحراسة الجهاز من قبل القوات المسلحة لم تسمح بخروج أحد من أفراد الجهاز من المبنى، ثم بعد ذلك تم تنويرهم بواسطة اللواء السر أب حمد، بأن الاعتقال سيكون مؤقتاً وبعدها تم نقلهم بواسطة سيارات إلى سجن كوبر كمعتقلين.

 

تداعيات ما بعد الحل

يبدو أن حل جهاز الأمن المايوي، تسبّب لاحقاً في كشف ظهر النظام الديمقراطي الذي كانت تتناوشه العديد من التيارات الطامعة في السلطة، مثل البعثيين والإسلاميين آنذاك، فضلاً عن سيل الإضرابات المهنية المتلاحقة التي عملت على إضعافه، ذلك بالرغم من أن ولاء جهاز الأمن المايوي للنظام لكن أفراده لم يكونوا جميعاً على قلب رجل واحد معه، كما أنه بحكم المهنية الأمنية ما كانوا سيجدون صعوبة في التعامل مع النظام الحزبي وحمايته باعتبار ما يملكونه من خبرات كبيرة ومصادر عديدة كانت ستعينهم على تلك المهمة، لكن لاحقاً نفى مسؤول الأمن في عهد النظام الحزبي الديمقراطي الفريق عبد الرحمن فرح إبان فترة رئاسة الصادق المهدي لرئاسة الوزراء أن يكون جهاز أمنهم ضعيفاً، وقال إنهم كانوا يعلمون بتحركات ضباط الإنقاذ عندما كانوا يخططون لحركتهم الإنقلابية في يونيو 1989، بيد أن الصادق المهدي قلل من مخاطر هذه المعلومة رغم أهميتها، وهو أمر يثير الدهشة، فهل كان المهدي يثق في الإسلاميين؟ أم إنه كان يظن أن أي تيار سياسي لن يجرؤ على قلب نظام حكم ديمقراطي جاء عبر الجماهير وعبر ثورة شعبية، لكن بصرف النظر عن صحة ما ذكره الفريق عبد الرحمن فرح، فإن التكوين العاجل لجهاز الأمن في الحقبة الديمقراطية، وفي الظرف الذي واكبه والإمكانات التي كان يعمل بها كلها مؤشرات توحي بأن مقدرته الأمنية في حماية النظام الديمقراطي في ظل تلك الظروف ستكون محل جدل كبير، لكن ربما كان المستفيد الأول من حل جهاز الأمن المايوي هو حكومة الإنقاذ الحالية التي وجدت الطريق ممهداً لها ثم لعلها استفادت لاحقاً من خبرات ذلك الجهاز المحلول والذي أطلقت سراح رئيسه لاحقاً من المعتقل بعد حكم قاس بلغ تسعين عاماً بواسطة القضاء في الفترة الانتقالية بتهمة التخطيط والإشراف على نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، ومن المفارقات أيضاً أن شاهد الملك في القضية هو الذي فند أقوال اللواء عمر محمد الطيب ببراعة، وقال في المحكمة إنه عندما انطلقت عملية نقل الفلاشا قال لهم اللواء عمر (بقيف معاكم بمسبحتي) ولم تثن برجماتية الإنقاذ من الاستفادة لاحقاً من خبراته حيث تبوأ منصباً مهماً في فترة سابقة.

 

قريباً من البياض

ربما يحمد للواء عمر النائب الأول لرئيس نميري، أنه إبان الانتفاضة الشعبية ضد نظام حكمه أنه لم يطلق أيدي أفراد الأجهزة الأمنية المختلفة لسفك الدماء والإفراط في العنف، حيث لم تتسم الانتفاضة بسقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى بالنظر إلى حجم التظاهرات آنذاك، ولعل هذه المرونة النسبية هي التي أغضبت نميري فيما بعد، متهماً اللواء عمر بالتسبب في سقوط النظام الذي طالما ظل قابضاً عليه بيد من حديد ودون تساهل، عندما مادت الأرض تحت أقدامه في بعض المرات.

 

 

تقرير : أحمد طه صديق
( صحيفة الصيحة )

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى