ناهد قرناص

سكان كوكب زمردة

كانت زميلتي في احدى المحطات التي عملت بها سابقا … كانت مخلصة في عملها كمسؤولة عن النظافة ..مجتهدة تعمل بهمة وتحرص على الذهاب باكرا للاتيان بابنتها من المدرسة ..ولانها تبيع العشاء ليلا في احد الأسواق القريبة من منزلها ..كنت احب تجاذب الحديث معها فقد كانت مرحة رغم الظروف القاسية التي تحيط بها ..لكن الأمر الذي كنا دائما مانختلف عليه ..هو اعتقادها ان ادخال ابنتها مدرسة خاصة ذات رسوم دراسية عالية ..سيجعل من ابنتها مؤهلة وقادرة على انتشالها بعد حين ..

لذلك كانت تستقل المواصلات يوميا لمدرسة ابنتها البعيدة لمرافقتها ..ذات يوم صيف قائظ …والدفار ملئ بالعمال العائدين من يوم صعب ..الازدحام على اشده ورائحة العرق في الارجاء ..صديقتي تمسك بتلك (الماسورة ) بيدها اليسرى ..وابنتها بيها اليمنى ..الصمت سيد الموقف ..في تلك اللحظات سمعت ابنتها تقول لها (يا ماما ..نحن ليه ما نمشي اجازة لندن ؟).

تلك كانت لحظة فارقة ..حينها علمت صديقتي ان ابنتها التي تعول عليها كثيرا ..صارت تعيش في عالم اخر ..بيئة مختلفة ..لغة غريبة ..تجعلها حتى وهي بين اهلها ..لا تراهم ولا تحس بهم …لذلك لن تفسح لهم مجالا في تفكيرها ..فقد صارت مفصلة عن الواقع ..واصبحت بين ليلة وضحاها من سكان كوكب زمردة الخيالي .

الذي فعلته صديقتي مع ابنتها هو نفسه ما فعلناه مع المسؤوليين تبعنا ..اذ نتحمل عنه كل التكاليف ..ندفع له بسيارة بوقودها ..نتحمل عنه فواتير الكهرباء والمياه ..تتحمل الضرائب تكاليف السفر في حالات السلم والحرب والعمل والاجازات ..ماذا كانت النتيجة ؟ النتيجة كانت وجود طبقة لا تحس بمعاناة الناس ولا تفكر فيهم اصلا …

هل التقيتم احد المسؤوليين المعروفين في اي صراف ؟ صف خبز؟ لا دعك من ذلك ..هل حدث ولو من قبيل اعرف وطنك حاول احدهم (المدافرة) في جاكسون وركوب المواصلات ؟ اكثر المفاهيم خطا عندنا .فكرة ان تجعل المسؤول يتفرغ للعمل وتجنبه مشقة المعاناة مثل بقية الشعب ..فينتج عندنا تلقائيا مسؤولي كوكب زمردة ..الذين في عز الازمة وشظف العيش يمكنهم ببساطة ان يرفعوا صوتهم قائلين (عايزين نمشي الاجازة لندن !).. الم يكن مدهشا ان يسافر احدهم من الصين الى المكسيك الى اثيوبيا ..في خلال اسبوعين قضاها الشعب في صف الصرافات ..وصفوف الخبز ..والوقود ؟

ان كان ثمة شئ يجب ان نبدا به التغيير فهو وضع قانون ينزع كل الامتيازات التي يتمتع بها اصحاب الكراسي مهما تقدموا في المناصب ..فهم في النهاية موظفي دولة يستحقون رواتبهم فقط .. وعليه المسوؤل ان يعيش ظروف شعبه بحلوها ومرها .. يجب ان نشاهدهم في المواصلات وفي صف العيش وصف البنزين ..يجب ان نقابلهم في زحمة البنوك ونلمح اسماءهم في اوراق التسجيل في صف الصرافات ..يجب ان نشاهدهم يألمون كما نألم ..و يشعرون بما نشعر ..اذ ربما حينها يعرفون ..لماذا خرج الناس الى

الشارع حين ضاقت بهم كل السبل ..حين تقطعت بهم الاسباب ..حين صارت الضغوط هائلة حتى فاقت حد المرونة ..حين بلغت القلوب الحناجر ..حين انفجرت الاوضاع وكانت ردة الفعل بقدر حجم الضغوط ..فقد قلناها قديما ..ولات حين مناص ..فقد صموا آذانهم عنا ..مضوا في طغيانهم يعمهون …ها نحن نقولها مرة اخرى وبصوت عال (اتق غضب الحليم ).

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى