الطيب مصطفى

أوجاع الخدمة المدنية وكيفية العلاج

لا ينتطح عنزان في أن كثيراً من أوجه الفساد وضعف أداء الدولة السودانية وتخلفها وانهيار قيم وأخلاقيات العمل ناشئ بدرجة كبيرة عن التردي المريع الذي أصاب الخدمة المدنية في السودان.

بالطبع هذا لا يعني البتة تبرئة العوامل الأخرى بما فيها الحصار الاقتصادي المتطاول والضعف المريع في إدارة الدولة وغير ذلك من الأسباب التي نشبت أظفارها ولا تزال في خناق الدولة السودانية.

ورث السودانيون من الحكم الاستعماري خدمة مدنية متقدمة من حيث الانضباط الإداري والمهنية العالية لكنها تأثرت كثيراً جراء الاضطراب السياسي وتقلب أنظمة الحكم بين عسكري وديمقراطي مع الحروب التي ضربت السودان منذ ما قبل الاستقلال وأنهكت اقتصاده وأحدثت تأثيراً هائلاً في استقرار الخدمة المدنية التي فقدت أفضل كفاءاتها وقياداتها جراء هجرة السودانيين إلى الخارج والتي انفتح بابها على مصراعيه خلال فترة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي خاصة إلى السعودية ودول الخليج.

لا عجب أن يكون رؤساء بلديات كل من أبوظبي ودبي والشارقة وهي الإمارات الثلاث الكبرى في اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة المكون من سبع إمارات ..أن يكونوا سودانيين ولعل البعض لا يعلمون أن مدير البلدية كان في مقام رئيس الوزراء في ذلك الزمان وقد احتل السودانيون في تلك الدول خاصة أكبر المناصب والمواقع في شتى المجالات سواء الإدارية أو الطبية أو الهندسية أو القضائية والقانونية أو العسكرية أو الحسابية أو غير ذلك ونالوا بكفاءتهم وبطيب معشرهم وخلقهم النبيل ثقة واحترام شعوب وقيادات تلك الدول وكنت شاهداً على ذلك فقد اغتربت طويلاً في أبوظبي منذ منتصف السبعينيات وحتى بداية تسعينيات القرن الماضي.

لماذا اكتسب السودانيون الاحترام والتبجيل ونجحوا في الإسهام في نهضة تلك الدول وفشلوا في أن ينهضوا ببلادهم؟!

الإجابة لا تحتاج إلى عناء فقد كانت المشكلة في أوضاع السودان وليس في مواطنيه وعندما أقول (أوضاع السودان) أجمل بين طيات تلك العبارة أسباباً كثيرة يأتي في مقدمتها الحروب التي اجتاحت السودان وعدم الاستقرار السياسي منذ الاستقلال والذي أدى إلى ضعف وترد مريع في الخدمة المدنية وفي الأداء السياسي والاقتصادي للدولة.

يصعب في هذه العجالة إحصاء ما يحتاج إلى كتب وبحوث ولكني أشير إلى بعض مظاهر تردي الخدمة المدنية فقد طرح هذا الأمر خلال جلسات الحوار الوطني الذي حملت مخرجاته كثيراً من التوصيات الهادفة إلى تصحيح أوضاع الخدمة المدنية.

خلال جلسة مسائية عقدت أمس الأول للهيئة التنسيقية العليا لمتابعة إنفاذ مخرجات الحوار الوطني حول موازنة 2019 وبحضور رئيس الجمهورية لطم بعض أعضاء الهيئة الخدود وشقوا الجيوب حزناً على ما آلت إليه الخدمة المدنية التي تحدثوا بمرارة عن عجزها وأبدوا تشاؤماً أن تنهض بالدور المطلوب ، وهي في حالها الحالي (المايل) لإنفاذ الأهداف والبرامج التي حملتها موازنة عام 2019 وأطنب بعضهم في الحديث عن أوجاعها وعجرها وبجرها وضرورة إعادة النظر في القوانين الضابطة للأداء.

أقول معضداً إن ذات الموظف المتميز المنضبط في الخارج قد تجده متسيباً متباطئاً متقاعساً في السودان وكأنه شخص آخر .. لماذا يا ترى؟

صحيح أن جزءاً من الإجابة يكمن في الفرق الكبير بين الأجر المجزي الذي يتقاضاه في الخارج والذي يمثل دافعاً قوياً لبذل الجهد في سبيل المحافظة على الوظيفة المغرية وذلك الذي يحصل عليه في السودان ولكن السبب الأكبر في نظري يكمن في البيئة الإدارية المنضبطة في الخارج وفي قيم وأخلاقيات العمل السائدة في تلك الدول مقارنة بخدمتنا المدنية شبه المنهارة ولشرح ما أعنيه بقيم العمل أقول إنها تعني من بين معايير كثيرة الانضباط والإحساس الذاتي بالمسؤولية تجاه مطلوبات الوظيفة ويشمل ذلك احترام اللوائح والقوانين والمواعيد وغير ذلك.

ومن هنا يأتي الحديث عن أهمية تعديل قوانين العمل التي تسمح بالتسيب وتغل الإدارة عن معاقبة المقصر والمخطئ مهما كان جرمه.

تلك القوانين واللوائح كانت نتاج حركة نقابية مدمرة تؤسس للفوضى وانهيار قيم العمل ولا تساعد على الإنتاج وتصد المستثمر عن المجازفة بتوظيف أمواله في السودان وإذا كان الناس يكثرون الحديث عن قانون الاستثمار فإنهم يتجاهلون قوانين العمل التي ينبغي أن تُعدّل بما يضع خدمتنا المدنية في المسار الصحيح والحديث ذو شجون.

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى