الطيب مصطفى

“الحاكمية التباس المفهوم وغموض الدلالة”

أتناول اليوم بعض أفكار الدكتور عصام البشير – الذي يتبنى فكراً وسطياً عرف به في شتى أنحاء عالمنا الإسلامي – حول مفهوم الحاكمية الذي ظل محل خلاف كبير عبر التاريخ الإسلامي منذ أن تفجرت القضية بنشوء فكر الخوارج.

يقول د. عصام ما يلي :

* الفكرة المركزية في فكر التّطرف والغُلُو متصلة بمسألة التوحيد، حيث اعتبروا الحاكمية جزءاً من توحيد الألوهية، والجهاد أحد الوسائل لتحقيق هذا المفهوم. ولكن لنبدأ بمسألة الحاكمية ونسأل: هل هذا المصطلح واضح الدلالة والمفهوم بحيث لا يكون فيه التباس؟

هنالك التباس. الحاكمية بالنسبة للمولى تعالى حاكميتان؛ الحاكمية الأولى هي الحاكمية الكونية، وهي طلاقة المشيئة والإرادة الكونية، هذه حاكمية مطلقة لله رب العالمين. والحاكمية الثانية هي حاكمية الأمر: “ألا له الخلق والأمر” (سورة الأعراف، الآية: 54)؛ الخلق والأمر تحليلاً وتحريماً. وهاتان حاكميتان مطلقتان لله رب العالمين.

هنالك حاكمية مقيدة: وهي سلطة الاجتهاد فيما لا نصّ فيه، أي أن الشارع الحكيم ترك للبشر فيما هو ظنّي من الأحكام، أو فيما هو مسكوت عنه، سعة ورحمة بالخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم: “وما سكتُّ عنه فهو عفوٌ فاقبلوا من الله عافيته” هذه المنطقة؛ منطقة العفو، التي تسمى في التشريع والمصطلح القانوني كما يطلق عليها شيخنا القرضاوي (منطقة الفراغ التشريعي) هي محل اجتهاد المجتهدين، ونظر أهل العلم الراسخين، وهذه درجة من درجات الحاكمية لكنها متروكة للبشر لأنها حاكمية مقيّدة، وهذا ما استدل به ابن عباس: “يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة” (المائدة)، “فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها” (النساء) هذا في إطار الصلح، وأيضاً في إطار الاجتهاد، وطبعاً لا نستطيع أن نقول فيه هذا حكم الله، ولكن نقول: هذا اجتهادي إن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن نفسي، كما جاء في الحديث: “أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أصبت حكم الله أم لا”.

لأنك إن قلت هذا حكم الله في اجتهادي انتهى الكلام، لكن حين تقول هذا اجتهادي في فهم حكم الله فهذا يعني أن فيه مجالاً للمراجعة والتصويب، والتخطئة فيه واردة، والتصحيح كذلك، كما قال عمر لأبي موسى “فلا يمنعنَّك قضاء قضيته اليوم فهديت فيه لرشد أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل”.

لذلك درج أئمتنا على هذا بقولهم: “اجتهادي صواب يحتمل الخطأ، واجتهاد غيري خطأ يحتمل الصواب”. وأبو حنيفة حين سئل: هل هذا الذي اجتهد فيه الحق لا باطل معه؟ قال: “لعله الباطل الذي لا حق معه”. وهذا من تمام عدلهم وإنصافهم في أن هذه السلطة؛ سلطة الاجتهاد الذي يسمى حاكمية مقيدة، هي اجتهادهم في حكم الله، ولكن لا يقال هذا حكم الله على سبيل القطع واليقين.

* لتحقيق الدولة المسلمة، وهذا طرح طرحته كل الحركات الإسلامية وتيارات ما يعرف بالاسلام السياسي – قد يكون عندك تحفظ على المصطلح – يتذكر الناس – مثلاً – شعار الإخوان المسلمين “السيفان والمصحف” بمعنى أن السيف واحد من أدوات تحقيق هذه الدولة هذا إذا كنت فاهماً لمغزى الشعار؟.

ليس بالضرورة، والمقصودد أن الحق لابد له من قوة تحميه “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد” (سورة الحديد، الآية: 25) وابن تيمية قال: “الدين يقوم بالكتاب الهادي والحديد الناصر”.

* لكنهم استمسكوا بالحديد الناصر؟

لا. وكما قلت آنفاً لابد للحق من قوة تحميه، ولكن ليس معناه استعمال السيف على رقاب الناس بغير الوسائل الشرعية التي اعتمدها الشرع.

(آية السيف والقتال والجهاد)

* مع الأخذ في الحسبان لـ”حديث السيف” انظر لكل لما جرى للتيار الليبرالي الإسلامي الذي ارتضى الاحتكام لصندوق الاقتراع من إقصاء في مصر والجزائر، وما يتعرض له ذات التيار الذي وصل إلى الحكم في السودان من تضييق وحصار، وتولدت قناعة بوجود قوى عالمية تحول دون تحقيق الدولة المسلمة وذلك بالتواطؤ مع واقع الدولة العلمانية المتجذرة في بلاد المسلمين، وهو ما أوصل بعض الجماعات إلى أنه ما من سبيل لتحقيق الدولة المسلمة سوى بالجهاد، سيما مع قناعتهم أن كل جهاد النبي صلى الله عليه وسلم معظمه جهاد طلب وليس جهاد دفع كما حدث في غزوتين أو ثلاث؟

طرحت عدة قضايا فدعنا نحلها واحدة بعد الأخرى. ذكرت أولاً حديث “بعثت بالسيف”، وهذا الحديث ليس مسلّماً بصحته لأن في سنده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهذا اختلف الأئمة في توثيقه وتجريحه، والمجرّحون له أكثر، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، ومنهم إمام أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين، ففي إسناده نظر وفي متنه نظر أكبر لأنه لم ترد آية في كتاب الله تعالى تقول إن الله بعث محمداً شاهراً سيفه، وإنما جاءت الآيات “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (سورة الأنبياء، الآية: 107)، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث وأصحابه ثلاثة عشر عاماً في مكة بين مشجوج ومضروب ومعتدىً عليهم، وكان شعاره: “كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة” (سورة النساء، الآية: 77) متى رفع النبي صلى الله عليه وسلم سيفه؟ رفعه في رد عدوان واقع أو عدوان محتمل عليه، ولذلك هذا الحديث مردود من حيث السند والمتن، فلست مع الذين يقولون بقوته، وأراه مخالفاً ولي أدلة على هذا الأمر.

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى