ابومهند العيسابي

بكلمات حزينة “العيسابي” يرثي أحد أعيان قريتهم الوادعة

نشأنا وتَرَعرعنا في قرية باذخة الجمال، كانت شبه جزيزة يحيطها النيل كالسوار بالمعصم، من جميع الإتجاهات إلا إتجاه واحد لنهر موسمي كان يتدفق في موسم الفيضان، قرية وارفة الحُب والمحنة والظلال، لاتعرف الشرور تعرف الماء والحجر والعصافير والزهور.
بعد فيضان النيل الشهير في ثمانينات القرن الماضي، أرغمنا أن نرحل من بين أحضانه الجارفة، فطاب إستقرارنا بالضفة الشرقية، ليحتضننا سحر آخر من الجمال الساحِر، الرمال الحمراء و القمر الساطع والأنس الشيّق الممتع أمام حوانيت الحي، والنسيم العليل الذي يأتينا بأريج خليط صناديق الشاي الكيني وعلب التبغ البرنجي والجنزبيل والصابون، تركيبة عطر مُميزة نشتمها ونحن ندلف لدكان العم الرضي وحسون.
هُناك جاورنا وقبل مجاورتنا صاهرنا هذا الرجل الأصيل الباسق كالنخيل والشامخ كالطود، مُستودع الحكمة والشورى أحد أركان بلدتي الحالمة، الذي إنهد في هذا المساء الحزين.
تزوره فتجد عنده كل شيء التاريخ والأرحام والأنساب والحكمة ووصفات العلاج وحليب الإبل والفراسة وقص الأثر.
رحل اليوم وترك مساءاتنا المُقمرة حزينة جارنا الحبيب العم الكريم “محمد مصطفى عبدالرحمن أبوشنب” الذي تحلو مناداته لأهل بلدتنا ” بود مصطفى” الرجل الحكيم الرزين القائد المهيب.
لازالت صورته تترآى أمامي وهو يزورنا للأنس مع والدي الفقيد، مُلتحفاً ثوباً من الصوف في أمسية شتوية باردة والقمر يرسل ضوءه مُقَبِلاً الرمال، ولازلت أشتهي أنسه وقصصه ومواقفه التي كان يجيد سردها وكأنك ترتشف من فرط متعتها عُصارة من فاكهة يانعة.
ثلاثة عقود وأكثر كانت مجاورتنا له في قريتنا الهادئة لم نعرف عنه إلا كل جميل، ستفتقدك عمنا “ود مصطفى” تصبيحات الصباح وزيارات المساء ،وجِيرة المسجد، وسوح العمل العام و خُطب العيد.
برحيلك أفل نجم يُهتدى به، وهوت نخلة أُخرى سامقة وشامخة كانت ترمي بظلها الوارف بسماحة وطيب نفس آخر عنقود ماكانت تباهي به “تنقسي” وتدفع به على صدر المحافل من حكمة مصقولة بالتجارب، مَن للمجالس من رجل في قامة من رحل، سمحاً يشرئب كما باسقات النخيل، مابال الموت يفرغ ماعوننا من دسم الأصالة والنُبل، وكل شيم الفرسان والبطولة والجدعنة، كما نعاك بذلك عمنا “فتحي درويش” .
يحق لتنقسي أن تذرف في هذه الليلة الدمع الثخين، وتنام باكية على فقد أحد فلذاتها وصناديدها من زمرة رعيلها الأوئل وروادها الشامخين ، الذي بفقده أقفرت أرضها، وذبلت خضرتها وتوشحت السواد، وهو يمضي في سبيل الأولين والآخرين، وأمام ذلك لا نملك إلا أن نرضى بإرادة رب العالمين.
رحمك الله “ود مصطفى” الرجل النبيل الأصيل الذي بكته بالجُموع ممن نعرف ولانعرف، وأسكنك أعالي الجنان وجعلك من أصحاب اليمين.
إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولاحول ولاقوة إلا بالله
بقلم: ابومهند العيسابي

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى