العمال في يوم عيدهم… لسان حالهم يردد “الاحتفال” هو أن نعمل

بهدم مترب وقلب نظيف يسابق الشمس في شروقها ينهض عادياً كما العمال، ويصحو مثلما تفعل الآمال تماماً ،عنده تتشابه الصباحات تماماً، فلا فرق بين الأول من مايو والسادس من أبريل غير الزحمة في شوارع الخرطوم التي يقطعها يومياً من أقصى جنوبها وصولاً إلى المنطقة الصناعية، حيث المكان الذي يلتقي فيه بزملاء الشقى ، مؤكداً أن العربة التي تحمله والمكتوب في خلفيتها عبارة (دايرة صبر) تحمل معه الآخرين وكأنهم يطبقون بياناً بالعمل الشعار (يا عمال العالم اتحدوا).

1
الأول من مايو يصادف اليوم العالمي للعمال، حيث يحتفي بهم العالم في مكان ويحتفلون هم بأنفسهم من خلال سعيهم من أجل مواصلة مسيرة تحصيل حقوقهم ووضع الإجابات على الأسئلة من نوع كيف ومتى وما هو الطريق. في أحد نصوصه يبكي الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد غياب حالة التضامن بين أفراد الطبقة العاملة، في عالم باتت تمسك بتلابيبه الرأسمالية: “بعتوا شفيعكم يا عمال.. بعتوا وجيعكم للرأسمال”.. وفي كتاباته يتساءل الشيوعي السابق البروفيسور عبد الله علي إبراهيم: “هل ما تزال لدينا طبقة عاملة أم أنها ذهبت مع ريح الإنقاذ؟”.
وبعيداً عن الإجابة على سؤال عبد الله علي إبراهيم، وقريباً من الطبقة التي يحتفي العالم بفعلها كما اعتاد، بحلول الأول من مايو بوصفه (يوم عيد العمال) وتخرج المظاهرات في عدة مدن عالمية.. كعادتها الخرطوم كانت تقف أمس في وضع الصامت، يحمل عمالها أدواتهم دون أن تهب عليهم نسمات العيد أو أن يستمعوا إلى تلك الأصوات المطالبة بحق العمال في الحياة الكريمة يظل السؤال حاضراً: هل ما زالت قضايا العمال هي قضية العالم المحورية؟

2
بالطبع كانت قضية العمال وحقوقهم هي أحد مخرجات الحرب الباردة وصراع الأيديولوجيات في عالم تتحكم فيه ثنائية الرأسمالية والاشتراكية وفي ظل انحسار النزاعات الأيديولوجية الكبرى، وانخفاض نغمة المعسكر الاشتراكي وانشغال الرأسمالية الغربية بالهجرة و(داعش) وإعادة تعريف اليمين واليسار على أساس شعبوي، يحس عمال العالم باليتم والخيانة، ومع أهمية القضايا التي تطرحها تنظيمات العمال في العالم، فإن الإحساس بالاحتفال بالأول من مايو، وهو اليوم الذي دشن فيه مئات الآلاف من العمال في الولايات المتحدة حملة (8) ساعات للعمل، و(8) ساعات للراحة، و(8) ساعات للنوم في 1860م، أيام الاستعمار التركي على السودان.. بدأ وكأنه احتفال روتيني على غير العادة أيام كانت مناسبة لتعزيز الحقوق المكتسبة ولوضع المزيد من الرهانات على حقوق أخرى يسعى العمال لتحقيقها، بالطبع فإن التحولات الدولية ألقت بظلالها على قضية العمال وبالطبع على حقوقهم دون أن يعني ذلك إهمال عامل آخر يتعلق بالتطورات التقنية التي قللت من حجم العمالة على مستوى العالم.

3
وفي يوم العمال يردد حزب الطبقة العاملة منشوره السنوي: “نحتفل بالذكرى والطبقة العاملة السودانية وجماهير الكادحين كافة تعيش أوضاعاً مزرية جراء الغلاء وارتفاع الأسعار، ومصادرة حق التنظيم النقابي وتزوير انتخابات النقابات، وتشريد العاملين وفرض نقابة المنشأة، مما يتطلب أوسع جبهة نقابية من أجل الأجور وتحسين الأوضاع المعيشية وانتزاع قانون نقابات ديمقراطي يشارك فيه النقابيون والعاملون، وتوفير حق العمل للعاطلين، وإسقاط العناصر الانتهازية من النقابات، وتوفير العلاج والدواء وحق التعليم”. ويحمل الحزب الشيوعي السوداني الوضع المأساوي الذي تعيش فيه طبقات المجتمع السوداني للسياسات التي تتبناها الحكومة عبر نظامها الحاكم، ويرى أنه لا بديل لتحصيل حقوق العمال إلا بتبني خيار تغيير هذا الواقع عبر إسقاط النظام، بالطبع البيان يمكن أن يختم بعبارة عاش نضال الطبقة العاملة الثورية. وهو أمر من شأنه أن يطرح سؤالاً آخر حول الطبقة نفسها ومدى وجودها.

4
بالطبع لن تنفتح شوارع الخرطوم في فاتحة مايو أمام العمال ولن تحتشد بهم في ظل تراجع كبير في عملية الإنتاج وتراجع عدد المصانع التي كانت تدور ماكيناتها في أوقات سابقة وهو أمر يأتي باعتراف من وزارة الصناعة نفسها التي لا يكاد يمر يوم دون أن تعلن توقف عدد من المصانع بسبب الكلفة التشغيلية الفائقة، وهو أمر يدفع فاتورته في نهاية المطاف العمال الذين عليهم مغادرة وظائفهم إلى الرصيف في ظل سيادة النموذج الاقتصادي الجديد وتحكمه في مسار اقتصاديات العالم، وهو ما يؤكد على معادلة تراجع تأثير العمال على المشهد العالمي أو خفوت أصواتهم مقارنة بأصوات أخرى.

5
الخرطوم التي اكتفت بالفرجة في الأول من مايو دون أن تستطيع استعادة أيام (مايو) الخوالي حين كان رئيس البلاد الراحل جعفر نميري مرتبطاً بالعمال وبقضاياهم ومتمسكاً بالأيديولوجيا السوفيتية التي بدت وكأنها تبعث بصوت احتجاجها إلى الساحل، حيث وقف (كلات الموانئ) شاهرين سيوف إضرابهم حيث دخل عمال الشحن والتفريغ في ميناء بورتسودان في إضراب عام شل ميناء بورتسودان وتزامن إضرابهم مع الأول من مايو، وذلك احتجاجاً على نظام الشركات الذي أقرته حكومة ولاية البحر الأحمر كبديل عن جمعية عمال الشحن والتفريغ؛ وهو ما يعني أن يذهبوا هم مثل الآخرين إلى الرصيف ملتحقين بعمال السكة حديد وعمال النقل النهري وعمال الطيران المدني، الذين ينتظرون مهر ورقة التخلص منهم باعتبارهم فائض عمالة، فيما تكفلت الوقائع الاقتصادية السائدة واستراتيجيات المعالجات الحكومية بوضع السطر الأخير لعدد كبير من المصانع العاملة. بالطبع فإن رفض عمال الميناء في بورتسودان لسياسات حكومة الولاية يأتي في سياق رفض عام لما يطلقون عليه الخصخصة والتشريد.

6
في مكان آخر بقلب الخرطوم يجلس عدد من العمال مثلما وصفهم الراحل محجوب شريف (حفارين مجاري النصر.. نساجين خيوط الشمس.. نقاشين جدار الصمت.. وكهربجية الظلمات)، بالطبع بينهم عمال البناء والسباكة يجلسون في انتظار رزق تبعث به إليهم سماء الخرطوم، مثلما تفعل بشمسها تماماً، يقول ياسر علي وهو أحد العمال الجالسين في قهوتهم في قلب السوق العربي (الحال واقف تماماً)، فلا أحد يريد أن يبني ولا أحد يرغب في إصلاح شيء، بالنسبة لياسر فإن واقعهم يرتبط بشكل كبير بما تعيشه البلاد، فحالة اللا استقرار الاقتصادي أثرت على عمال اليومية مثلما أثرت على الآخرين لا يغادر ياسر مكانه دون التأكيد على أنهم في هذه الأيام بقيت عملية تحصيل قيمة المواصلات للعودة إلى البيت على درجة عالية من الصعوبة، بالطبع ياسر ومن يشاركونه قهوة العمال ساعتها خالي الذهن تماماً بأن يوم أمس كان يصادف اليوم العالمي للعمال و الاحتفال بهم.

7
في ذات فاتحة مايو يمكنك أن تتجاوز أولئك الجالسين على رصيف انتظار العمل إلى من يقومون بأداء الأعمال في المؤسسات المختلفة وعن الظروف التي يعملون فيها. ظروفِ عملٍ سيئة وفي بيئة عمل غير آمنه بمقابل لا يكفيهم حتى سدَّ الرمق، رغم كل ذلك فهم يعتمدون على طاقتهم ومجهودِهم البدني بشكل أساسي في أعمالهم وإنجازها بما يجعل الحياة قابلة للحياة، ينسجون أسماءهم في تاريخ الأمم باعتبارهم بُناة حضاراتها على مدى التاريخ.
بذات هدمه المترب وقلبه النضيف ومرتب بما يجب عليه القيام به، يهبط علي الميكانيكي بصحبة رفاقه في ورشته في المنطقة الصناعية بالخرطوم يبدأ مشوار الحياة اليوماتي بحلقة تكتمل دائرتها أمام (زينب) ست القهوة الدنيا أم فلاح تبدأ مع شاي الصباح في مكانه ذلك، يقوم بإعادة تقسيم صبيانه على السيارات التي تنتظر ماكيناتها الدوران يرسم ابتسامة بمساحة مليون ميل مربع ينعكس ضوؤها على العلم المرفوع أمامه في إحدى الورش ومن ثم ينهض ليغوص بيديه داخل الماكينة فتدور وتبدأ رحلتها حاملة في جوفها عمالاً جدد وبأدواتهم. هنا أبرول يختلط فيه العرق بالزيت، على مقربة منه مسطرينة وقدح مونة وجباه لا تعرف الانكسار، صور قديمة للشفيع وقاسم أمين والسكة حديد والنقل الميكانيكي والسباك وهو يجعل ماسورة المستشفى تكب موية الصحة، وفي البال مظاهرة حاشدة ومحتشدة بصوت حق الزيتهم طالع ومنور لينا الدرب ولا يمكنك أن تغادر دون التأكيد ودرن الأيدي العمالية أشرف من كرفتة البنك الدولي، وكل وجوه الرأسمالية وأن الأرض للطيبين ومفتاح الحياة العمال.

الخرطوم (كوش نيوز)

Exit mobile version