أبرز العناوينتحقيقات وتقارير

طلب جوبا عضوية الجامعة العربية.. السياق والخلفيات

محور القاهرة
تناقضات مدهشة
العزلة والأمل

لم يكن طلب دولة جنوب السودان الانضمام إلى جامعة الدول العربية أوائل مارس/آذار الحالي -بمساعدة ودعم مصري- الذي جوبه بالرفض؛ هو الأولَ من نوعه، إذ سبق أن أعلن الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في يوليو/تموز 2016 أنه يسعى لإقناع الدول العربية بمنح جوبا صفة مراقب خاص، لقطع الطريق على إسرائيل في البلدان الأفريقية.

والمدهش أن الحركة الشعبية الحاكمة بجنوب السودان والتي تقدم أوراق طلبها الانضمام للجامعة العربية؛ هي التي بنت مشروعها السياسي -الذي كانت ثمرته الانفصال عن الدولة الأم في يوليو/تموز 2011- على محاربة ما تسميه “المشروع الإسلاموعروبي” في السودان. ليس هذا فحسب، بل أن الحركة الشعبية تزعم أنها تقود الأفارقة ضد هذا المشروع، الذي ترى أنه اتخذ السودان منصة لغزو القارة الأفريقية.

واليوم تبدو الحركة الشعبية وكأنما كانت تضحك على شعبها الذي أورثته حربا أهلية لم تبق ولم تذر، وأسقطت من الضحايا -في بضع سنين- ما يفوق ما أسقطته الحرب في السودان الموحد خلال نحو 50 عاما. واستباح قادتها أموال البترول ونجحوا في وصم دولتهم بأنها من أفشل الدول بين الأمم، وهي دولة لا تكاد تستبين حدودها إلا في العاصمة جوبا وما حولها وما عداها أراض محروقة.

وطلب جوبا الانضمام -بالإضافة إلى أنه محاولة للتغلب على مشاكلها الداخلية- يأتي في سياق لعبة محاور إقليمية، ولا يبدو بعيدا عن خلافات الخرطوم والقاهرة في ملفات ساخنة، مثل سد النهضة الإثيوبي ومثلث حلايب وشلاتين والأوضاع المتأزمة في ليبيا.

محور القاهرة
لم تتمكن القاهرة من إقناع مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية -خلال اجتماعهم رقم 149 في 7 مارس/آذار الحالي بالقاهرة- بقبول عضوية جنوب السودان. ولم يستطع أبو الغيط -غير البعيد عن تنفيذ الأجندة المصرية باعتباره وزير خارجية سابق- إخفاء استيائه قائلا إن أعضاء الجامعة تعاملوا مع الطلب بعدم تجاوب.

“واليوم تسعى القاهرة لاهثة لضم جنوب السودان إلى الجامعة العربية بعد أن كان جزءا منها ضمن السودان الموحد ما قبل الانفصال في 2011. ورغم الانفصال فإن الحركة ما زالت تسمي نفسها “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، أي تحرير السودان من العرب وثقافتهم. وكان زعيمها يقول: إذا كان العرب والمسلمون خرجوا من الأندلس بعد أن ملكوها قرونا؛ فما الذي يمنع خروجهم من السودان؟”

ربما كان انتظار جنوب السودان نحو سبع سنوات لتتقدم بطلب انضمامها إلى الجامعة العربية ترددا أو عدم قناعة بالمسعى، لكن هناك ما يعزز فرضية ارتباط طلب الانضمام بمستجدات وترتيبات تدور في الفضاء الإقليمي.

وما يحيّر هو أن مصر كانت داعما رئيسيا للحركة الشعبية الحاكمة اليوم بجنوب السودان إبان خوضها حربا ضد الجيش السوداني، الأمر الذي ساهم في انفصال هذا الجزء من السودان. وبلغ الدعم السياسي للحركة حدَّ سماح القاهرة بفتح مكتب تمثيلي للحركة في القاهرة، ومنحها زعيم الحركة الراحل العقيد جون قرنق منبرا إعلاميا من القاهرة يبث من خلاله خطابه المعادي للعروبة.

واليوم تسعى القاهرة لاهثة لضم جنوب السودان إلى الجامعة العربية بعد أن كان جزءا منها ضمن السودان الموحد ما قبل الانفصال في 2011. ورغم الانفصال فإن الحركة ما زالت تسمي نفسها “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، أي تحرير السودان من العرب وثقافتهم. وكان زعيمها يقول: إذا كان العرب والمسلمون خرجوا من الأندلس بعد أن ملكوها قرونا؛ فما الذي يمنع خروجهم من السودان؟

واليوم تحاول مصر التأثير على مجريات الأحداث في جنوب السودان وإلحاقها بإستراتيجيتها الإقليمية؛ وأشرفت المخابرات المصرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، على توقيع وثيقة “إعلان القاهرة” لتوحيد الحركة الشعبية، بحضور رئيس أوغندا يوري موسيفني وممثلين لـلحركة الشعبية بشقيها حكومة ومعارضة.

ولا يواجه المسعى المصري عقبة تطبيق شروط عضوية الجامعة على جوبا فحسب، إذ إن جنوب السودان -رغم قصر عمرها- ظلت تصوت ضد قضية العرب المركزية وهي القضية الفلسطينية. ولذا أخذ طلب عضويتها حيزا من المناقشة خلال الاجتماع العربي الوزاري بخصوص مواقف جوبا من هذه القضية.

وأشار مصدر عربي دبلوماسي إلى أن موقف جوبا كان صادما للجانب العربي بامتناعها عن التصويت خلال جلسة للأمم المتحدة أجرِيت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لرفض قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة إسرائيل. وهو ما اعتبرته الدول العربية موقفا مخزيا لجوبا ضد مشروع القرار العربي.

تناقضات مدهشة
والمدهش أن من بين أسباب طلب عضوية الجامعة -حسب مصدر حكومي بجنوب السودان- حاجة جوبا للاحتماء بالكتلة العربية داخل مجلس الأمن للتصويت لصالحها في القرارات المتعلقة بها، ومواجهة أي قرار قد يقضي بفرض عقوبات عليها لعدم توصلها إلى سلام مع المتمردين.

ومن الحماقات التي ارتكبتها جوبا بُعيد الانفصال رفضها إدراج العربية لغة رسمية ثانية في الدستور، مبررة ذلك بأن جنوب السودان لا تربطها علاقة مباشرة مع العالم العربي لأنها لا تقع في محيطه. وأثارت الخطوة جدلا كثيفا في الأوساط الشعبية، فغالبية السكان يتحدثون العربية وهي لغة التواصل بين مختلف قبائل البلاد.

“إن الخطاب السياسي الذي تبنّته الحركة الشعبية لتشكيل رأي عام جنوبي لصالح الانفصال؛ كان مغموسا في رؤية عنصرية معادية للثقافة العربية، وكذا الحال بالنسبة لمقاتليها الذين عبأتهم ضد الجيش السوداني قبل اتفاق السلام في 2005. وظل التناقض الأساسي في طرح قادة الحركة متمثلا في تحويل مطالب التنمية -كما في خطابهم السياسي المنطلق من مانفستو الحركة- إلى معاداة العرب”

ولذا فإن وسائل الإعلام المسموعة والمرئية تستخدم هذه اللغة كواحدة من وسائط التواصل الواسعة الانتشار. وعوضا عن العربية؛ لم تعتمد جوبا لغة محلية تعزيزا للإرث الوطني والثقافة القومية، بل استبدلت بالعربية -باعتبارها لغة أجنبية- لغة أجنبية أخرى، وهي اللغة الإنجليزية حيث أقرتها لغة رسمية في البلاد.

إن الخطاب السياسي الذي تبنّته الحركة الشعبية لتشكيل رأي عام جنوبي لصالح الانفصال؛ كان مغموسا في رؤية عنصرية معادية للثقافة العربية، وكذا الحال بالنسبة لمقاتليها الذين عبأتهم ضد الجيش السوداني قبل اتفاق السلام في 2005.

وظل التناقض الأساسي في طرح قادة الحركة متمثلا في تحويل مطالب التنمية -كما في خطابهم السياسي المنطلق من مانفستو الحركة- إلى معاداة العرب، واستبطان دعوة خفية للانقلاب على القبائل العربية في السودان، التي تزعم استحواذها حكم السودان وتمثل ما تسميه “السودان القديم”.

وكان واضحا أن الهدف النهائي -الذي ظلت تتعهده الحركة الشعبية- هو تمكين السودانيين الذين تعتبرهم أفارقة من السلطة، لاعتقادها أن دولة ما بعد الاستقلال 1956م دولة مفبركة ومؤسسة على نظام سياسي وأطر مؤسسية شوفينية عرقياً ودينياً. وعليه؛ فقد عقدت الحركة العزم على إنهاء ما تسميه النموذج العربي الإسلامي وإعادة بناء “السودان الجديد” عبر الإحلال والإبدال بين النموذجين.

وكانت الحركة ترى أن الوجود العربي في السودان طارئ؛ وأن تاريخ سكان السودان ممعن في القدم ويرجع إلى عهود ما قبل الميلاد. لكن من المعلوم بالضرورة أن معظم الأصقاع لها تاريخ أنثربولوجي، فهل يعني ذلك إلغاء وجود المجموعات السكانية اللاحقة.

وانتقدت الحركة السياسة الخارجية للسودان منذ استقلاله، وقالت إنها تخضع لتوجهات أيديولوجية للمجموعات الحاكمة، ولذا اعتبرت توجه السودان العروبي توجها أيديولوجياً ضد المصلحة الوطنية.

العزلة والأمل
ولعل فشل الحركة الشعبية في تنزيل خطاب سياسي محكَم، ومعبّر عن مزاعم سعيها لتنمية الإنسان ثقافيا وقيميا وماديا، وخالٍ من النبرة العنصرية الطائشة السهام؛ يترتب عليه ضرورةً فشلٌ على أرض الواقع.

فبعد نحو عامين فقط عقب الانفصال؛ اندلعت حرب أهلية بين مكونات الحركة القبلية، وأخذت رقعتها في ازدياد مستمر مع عجز عن صون اتفاقات السلام التي رعاها الاتحاد الأفريقيوأطراف أخرى، ولا يبدو اليوم أن هناك حلًّا في الأفق، وقد ينتهي الأمر إلى انهيار الدولة في ظل تهديدات دولية بفرض الوصاية الدولية عليها.

“من الناحية الإستراتيجية؛ لا بد من انضمام جنوب السودان إلى الجامعة العربية عاجلا أو آجلا، فهي جزء منفصل من عضو أصيل في الجامعة يحق له الانضمام بناءً على هذا المعطى، فضلا عن أن هناك معطيات أخرى تستجيب لشروط العضوية. فالحركة الشعبية لن تحكم إلى الأبد في جنوب السودان؛ إذ أتت بها ظروف استثنائية وهي لا تمثل آمال وتطلعات شعب جنوب السودان”

وفي فبراير/شباط الماضي؛ صعّدت دول غربية ضغوطها على جنوب السودان بحظر صادرات الأسلحة إليها، كما فرضت حظرا على سفر كبار المسؤولين فيها. وفي ذات الوقت؛ أعلنت الولايات المتحدة حظر صادرات الأسلحة وتقديم خدمات الدفاع.

واليوم؛ بدت جوبا معزولة ربما كليا عن المحيط الأفريقي، حيث ينتقد الاتحاد الأفريقي إدارة حكومة جوبا للأوضاع في البلاد. ويبدو أن هذه الأوضاع المأساوية جعلت جوبا أكثر استجابة للمخطط المصري، باعتبار ذلك فرصة لاختبائها في إطار الجامعة العربية التي ربما تجد فيها ملاذا آمنا إلى حين مَيْسَرَةٍ.

من الناحية الإستراتيجية؛ لا بد من انضمام جنوب السودان إلى الجامعة العربية عاجلا أو آجلا، فهي جزء منفصل من عضو أصيل في الجامعة يحق له الانضمام بناءً على هذا المعطى، فضلا عن أن هناك معطيات أخرى تستجيب لشروط العضوية.

فالحركة الشعبية لن تحكم إلى الأبد في جنوب السودان؛ إذ أتت بها ظروف استثنائية وهي لا تمثل آمال وتطلعات شعب جنوب السودان، الذي هاجرت أعداد مقدرة منه شمالا وعادت إلى السودان جراء الحرب في الجنوب.

ورغم أن الحركة الشعبية ظلت تستورد القيم الأجنبية للبرهنة على رفضها للحضارة العربية؛ فإن شعبها -حسب موقع الجزيرة نت بقلم الكاتب ياسر الحسين – يدرك أن الحضارة العربية قدمت للسودان في الشمال فكراً وقيمًا حضارية حافظت على نظام اجتماعي مستقر ومستدام.

وفي ذات الوقت؛ ظل الجنوب متخلفاً وبدائياً بسبب حكم الحركة الشعبية، ومن قبل بسبب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب التي قامت على سياسة المناطق المغلقة (خلال 1898-1947) التي وضعها الاستعمار البريطاني، وهدفت لمنع دخول الإسلام والثقافة العربية -وحتى من يمثلهما من أبناء شمال السودان- إلى الجنوب.

ومع كل ما سبق؛ يظل جنوب السودان امتدادا مهمًّا للثقافة العربية والإسلامية، وهو ما أكده فرانسيس دينغ أحد كبار المثقفين الجنوبيين والأمين العام المساعد للأمم المتحدة، وكان يمكن بسهولة أن تقبل دولةُ جنوب السودان كلها الثقافةَ العربية والإسلامية وتصير جزءا منها.
الخرطوم(كوش نيوز)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى