حوارات

منصور خالد في حوار تاريخي

الدكتور منصور خالد من أهم شهود العصر على تاريخنا المعاصر، له نظرة ثاقبة ناقدة لكثير من تفاصيل هذا التاريخ، التقيته في منزله الهادئ الجميل بالخرطوم، في صالون مزدهي باللوحات التي اختارها بعناية بنفسه والمجسمات التي أتى بها من بعض الدول الأفريقية. طلبنا منه ووافق أن يكون الحوار داخل مكتبته ومكتبه الذي قال لنا إنه يقضي فيه ساعات طويلة من اليوم.

حوار: عثمان ميرغني- حسب صحيفة التيار اليوم الخميس 22فبراير2018م

دكتور منصور، كيف تكتب مؤلفاتك التي تزدهي بها المكتبات؟ هل تستخدم الكمبيوتر مباشرة أم بخط القلم؟

لدي من يقوم بالطابعة على الكمبيوتر، فأنا أحب القلم وأحب الكتابة به مباشرة.

هل تراجع بريدك الالكتروني بصفة مستمرة؟

أترك هذه المهمة لمساعدي، فأنا مشغول بالقراءة والكتابة.

أوقات الترفيه المنزلية، هل تشاهد الأفلام؟

نعم أحب الأفلام التاريخية والوثائقية، وأستمع للموسيقى.

اللوحات التي تزين صالون منزلك الجميل ومكتبتك.. هل اخترتها بنفسك؟ فقد لاحظتُ رغم انتقادك لثنائية (الغابة والصحراء) لكن اللوحات أميل لتمثيل الغابة.

لا علاقة لها بهذه الثنائية، وهي متعددة الجنسيات، بعضها من كوريا ومن كل قارات العالم.

فلنبدأ حوارنا من كتابك الذي ينتظره قراؤك بتشوق كبير.. كتاب (هوامش من سيرة ذاتية) .. أين وصلت مراحل إنتاجه الآن؟

اكتملت الطباعة، والناشر دار “الرؤية”، وكان في تخطيطي أن يظهر في معرض الكتاب بالقاهرة لكني من باب التجويد آثرت أن أدقق أكثر، والآن جاهز تماماً وسيكون في متناول القراء قبل نهاية شهر فبراير (2018) الحالي.

علمنا أنه يتكون من عدة أجزاء؟

نعم لتسهيل التعامل معه قسمته لأربعة أجزاء، الأول سيرتي الذاتية النشأة والطفولة والمراحل الدراسية والعمل العام عموماً. والثاني محطات في تاريخ السودان المعاصر، والثالث فترة الحركة الشعبية حتى اتفاقية “نيفاشا”، والرابع عن الدبلوماسية السودانية في نصف قرن، تضمن الفترة التي عملت فيها بالدبلوماسية.

بصورة عامة الكتاب يحتوي على مذكرات طوال فترتي في الحياة العامة وحتى في الصغر، وفيه القضايا العامة سياسية أو أدبية.

ما هي أبرز القضايا التي تطرقتَ لها بترتيب أهميتها؟

بالطبع كان لابد أن أبدأ بمؤتمر الخريجين، وركزتُ على شخص ظُلم ظلماً كبيراً وهو الأستاذ أحمد خير، ليس لأنه صاحب فكرة “مؤتمر الخريجين” فحسب، بل لأن له رؤى واضحة في أن ينهض العمل السياسي على أساس موضوعي. ولسوء الحظ السودان ممتلئ بسياسيين شعوبيين وليس هناك من له استعداد ليبني السودان على أسس موضوعية رغم أن لديهم الخبرة. الوحيدون الذين أرادوا أن يستلهموا التجارب من حولنا هم “الاتحاديون” أو بالأحرى “مدرسة أبوروف”، كان توجههم نقل أو الاستهداء بالتجربة الهندية، يقضون وقتاً طويلاً في متابعة ما يقوله “نهرو” أو “غاندي” وينشروا ويتداولوا في ما يكتبه “نهرو” في مذكراته. كان نهرو يكتبها لابنته “أنديرا” وكان عمرها آنذاك تسع سنوات فقط، لكن من خلالها كان يتطرق لقضايا الشعب الهندي وهي قضايا كبيرة تناولت موضوع الدين والاقتصاد والثروة كيف تسخر لمصلحة الشعب، والتعليم والعلاقات مع العالم الخارجي. الاتحاديون كانوا يقرأون لكن للأسف تفرقوا شذر مذر.

أحمد خير ظُلم، وإذا عدت إلى كتابه “كفاح جيل” تجد أنه السياسي الوحيد الذي له رؤى لصالح واضحة.

وركزت أيضاً على نشأة الأحزاب الاتحادية وعلاقتها بمصر.

لماذا الأحزاب الاتحادية دون البقية؟

لأنَّ مفهوم العلاقة بمصر أصبح قضية مفتاحية لمستقبل السودان ولعب دوراً كبيراً في الحالة التي انتهينا إليها، ليس لأنَّ الأشياء التي اتبعناها كانت مصرية، بل لأنه كان هناك خيار في مصر بين لطفي السيد الرجل المفكر الذي يؤمن بالديموقراطية، والنحاس الذي قال “لو رشح الوفد حجراً لانتخبناه”. لطفي السيد عندما دعاه محمد نجيب ليصبح رئيساً رد (رئاسة الدولة هي عقد بين الشعب ومن يختاره وأنتم لستم الشعب) من كان يجرؤ ليقول مثل هذا الكلام، القضية ليست أنهم اتجهوا لمصر بل قضت الظروف أنهم يتجهون مع التيارات الشعوبية.

لكن كانت هناك أيضاً الأحزاب العقائدية الأخرى..

في ما يتعلق بالأحزاب العقائدية هي لعبت دوراً بالمرحلة الثانية في “لخبطة” الحياة في السودان، التيارات الإسلامية والتيارات العروبية الاثنان كانا يحاربان حروب الآخرين. عندما تتابع برامجهم لا تجد أي تناول للمشكلة السودانية الحقيقية، مثلا مشكلة الهوية والثقافة السودانية، والاقتصاد، هذه القضايا يتناولوها من منظور إما خيالي كما يفعل الإسلاميون عندما يتكلمون عن نموذج لم يجرب على أية حال، والمحاولات التي حصلت كلها أتت بنتائج عكسية وفي واقع الأمر تجاوزت القيم الدينية. أما بالنسبة لليساريين تجد تيارات عروبية، وهي تيارات عايشت الواقع السوداني لكنها مصرة على تعريب السودان غض النظر عن الواقع المحلي الذي تطبق فيه. أما الشيوعيون فقد قفزوا قفزة أخرى، فهم يريدون أن يصلحوا الكون كله، وعندهم حلول لأي مشكلة، أجد كثيراً من الشبه بين إخوانا الشيوعيين وغلاة المتدينين، إذا نظرت إلى التجربة الشيوعية تجدها تحولت إلى دين، أصبحت عقيدة، فعندها كتاب مقدس (رأس المال) أي مشكلة في العالم له فيها حل، وعندها رسول هو “ماركس”، وعندها “يوم قيامة” هو الثورة الكبرى التي تقضي على الرأسمالية، وبعدها جنة ونعيم مقيم، بعدها (لكل حسب ما يستحق، ومنه حسب ما يقدر)، هذه جنات الخلد وليست مجرد عالم بشري.

هل ارتبط ذلك بالنشأة السياسية لأحزابنا قبل الاستقلال؟

بالعكس الأمور كانت أفضل في ظل وجود الاستعمار لأنه ما كان يسمح لها أن تذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه، لكن بعد الاستقلال التجارب مريرة، تتكلم عن دولة ديموقراطية لا تجد أبداً غضاضة أن تحل حزباً انتخبه نفس الشعب الذي انتخبك، وتسمي نفسك “ديموقراطي” هذا ليس فيه منطق. ثم إخواننا في اليسار طوال فترة حكم إبراهيم عبود ارتضى هؤلاء الناس قائداً لهم هو إمام الأنصار، المذكرات كلها كانت باسم السيد الإمام الصديق أو الإمام الهادي، وكان يوقع عليها بعبارة “الفقير إليه تعالى الهادي المهدي”، ولما يسقط نظام عبود لظروف كثيرة مختلفة لا يمكن أن تأتي وتلغي الأحزاب، لا يمكن، وكأن المساندة التي وجدتها والقيادة لا تعني شيئاً. هذه مشكلة كبيرة فيها مغالطات، وفيها حقائق معاصرة مشهودة، قد نختلف في الماضي الذي لم نشهده لكن هذا تاريخ معايش بل وظل يتكرر.

ثم حديثاً في حالة “التجمع الديموقراطي” لمحاربة نظام الإنقاذ لم يجدوا قائداً لهم غير محمد عثمان الميرغني ليقودهم! والصادق المهدي، واضح أن هناك مغالطة للنفس من جانب ما يسمى بالقوى الحديثة.

قد يخطر في بال القارئ أنك استثنيت نفسك (من الملامة) رغم مشاركتك الواضحة في فترة ما بعد ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان؟

لا.. ففي الجزء الثالث وأهم ما فيه بروز الحركة الشعبية لغاية مرحلة المفاوضات واتفاقية “نيفاشا”، وإلى ماذا انتهت، وفيه استعراض حتى وصلت إلى مرحلة إعادة النظر في الدستور، لأنه حصل في عهد المؤتمر الوطني محاولات كثيرة وما زالت لتعديل الدستور وهذا يعكس حاجة مسألة مهمة. عندما وُضع الدستور الانتقالي لم يكن دستوراً للجنوب، هذا دستور للسودان وكان أهم ما فيه إنهاء الظلامات التاريخية، وبعدها وضع خارطة الطريقة لكيف يحكم السودان إدارياً واقتصادياً وقانونياً، وكل هذا تحت عنوان (التحول الديموقراطي) فلا بد من تحول، ولا بد أن يكون ديموقراطياً هذا هو معناه. لكن لسوء الحظ الطرف المفاوض من الشمال وهو حزب المؤتمر الوطني كان يظن أنَّ في مقدوره أن يوقع هذه الاتفاقية وفي نفس الوقت يخرقها، وظل ينتهج هذا ويشتري الناس. ولم يدر في ذهنه أنه هناك (ناس وناس)،هناك ناس تبنوا طريقاً وما تبنوه هزلاً لكنهم حددوا المشاكل وكيف تعالج إذا أردنا أن يظل السودان دولة موحدة مستقرة، هذا ما تضمنته الاتفاقية والدستور.

لكن من الغباء أن تظن أنه بإمكانك أن توقع اتفاقية مع من كانوا يحاربون لأجل المبادئ وتوافق عليها، ثم تظن أنه في مقدورك أن تخرقها كأنما لديك قدرات إلهية.

ولكن رغم كل شئ فالنتيجة النهائية أدت لانفصال جنوب السودان، فلا (تحول ديموقراطي) ولا حتى المحافظة على الوحدة.. من المسؤول عن انفصال الجنوب؟

هناك ظن غريب! هناك من يقول إنَّ الانفصال جاء نتيجة مؤامرة أمريكية.. يؤسفني أن يأتي مثل هذا الكلام من ناس متعلمين، لسببين، الأول أنَّ الحكم الذاتي كان محور نقاش بين الشماليين أنفسهم، التجمع الديموقراطي الذي وافق على تقرير المصير، علي الحاج مع لام أكول اتكلموا في تقرير المصير، لم ينتظر أحد الأمريكان ليهمسوا له في أذنه. ولم يحدث أن أي وزير أو رئيس أمريكي تكلم عن حق تقرير المصير مطلقاً. مشروع (نظامان في دولة واحدة) اقترحه معهد في أمريكا وشارك فيه “فرانسيس دينق”، وعُرض على الناس لكن لم تتبناه حكومة.

الرئيس بوش كون في بداية عهده لجنة، واختار “دانفورث” ممثلاً له في السودان، الخطاب الذي ألقاه “دانفورث” لما جاء ليتسلم تفويضه في البيت الأبيض موجود يمكن الرجوع إليه، قال هناك خيارات كثيرة منها تقرير المصير، وقال (أنا لا أؤيد هذا الخيار) وسيجد معارضة من الشمال ومن مصر.

كان الرأي أن تكون هناك إدارة مستقلة لجنوب السودان في ظل سودان موحد، على أن يعاد النظر في كل القوانين التي يشتكي منها الجنوبيون. ثم لما يفشل تنفيذ الاتفاقية لأخطاء مننا نحن نقول لأمريكا (والله أدينا الجنوبيين ما طالبتمونا بإعطائهم لهم ومع ذلك انفصلوا) .. هذا عبث لا يليق بناس عندهم أخلاق أو ربما جهل لناس لا يقرأون.

تخيل أن تاريخ السودان بعد الاستقلال شريط فيديو.. وضعنا أمامك زراً لمسح ما قد تتمنى أن لو لم يحدث.. فماذا ستمسح من تاريخنا؟

شوف السودان دا بلد غريب، أنا ما شفت لي بلد في العالم الحركة الوطنية فيه تعبئ الشعب السوداني كله على أساس أن مصيرنا مع مصر، ولما يأتي يوم الوحدة تقول نحن مع الاستقلال، و”مش كده وبس” بلل تقول نحن مع الاستقلال لأن هذا ما كنا ننشده من زمان! هؤلاء كذابون.. كذابون.. أي مؤرخ سيقول إنَّ القيادات السياسية السودانية كذابون.

الحاجة الثانية أنَّ الأخطاء بدأت تتفاقم لكن ما في شخص أبداً قال نحن غلطنا وتحصل مراجعات، كل ما فعلوه أنهم حملوا الاستعمار مسؤولية ما حصل في الجنوب، ويقولون هذا بعد عشرين سنة من خروج الاستعمار..(طيب أنت في العشرين سنة دي عملت أيه). كل ما فعلته أنك كنت تحارب .. العلاج الوحيد لقضية الجنوب هو الحرب! لم يهتموا بالنمو الاجتماعي وتحقيق المطالب فيما يتعلق بالتعليم وغيره، بل في إنجازات في العهد الاستعماري تراجعت في العهود الوطنية. لا يمكن وصف كل ما خلفه الاستعمار بأنها “بقايا الاستعمار” هذا سببه عقدة عند السودانيين أنهم أفضل الناس وخير الناس وأشجع الناس وبالتالي يبحثون عن نماذج لنصر موهوم. الأذى الحقيقي حصل من الأحزاب بالنسبة للديموقراطية ومن العقائديين لأنَّ الأفكار التي بها يؤمنون لم تلبِّ ما يطلبه الشعب السوداني.

(ضاحكاً) .. هل شطبت لك حاجة؟

أنت شطبت المفاهيم ولم تشطب الأحداث.. أريد منك أن تحدد ما تمنيت أن لو لم يحدث في تاريخ السودان المعاصر.

أريد مسح “الانفصال”: من تاريخ السودان، طبعاً هو من أخطر الأحداث في تاريخنا، وما كان يجب أن يحدث مطلقاً. عندما استقل السودان كان مطلب الجنوبيين “الفيدرالية” ولو وافقونا عليه لما حدث الانفصال، أضاع الساسة الوقت والفرصة بـ(الغلاط) في الفيدرالية.. عندما يجرؤ الصادق المهدي ويقول إنها تجربة لم تنجح في العالم وأن البلاد الأفريقية تتأذى منها، هذا كلام غريب، الصادق المهدي رجل متعلم يعرف أن أمريكا دولة فيدرالية والاتحاد السوفيتي –آنذاك- وسويسرا والبرازيل وكندا كلها دول فيدرالية، كيف يجرؤ أن يقول مثل هذا الكلام وهو رجل متعلم، هو ليس جاهلاً لكنه يكذب على الناس.

وكنت أتمنى أن أمسح من تاريخ السودان هيمنة الطائفية، كان المتوقع أن الطائفية بانتهاء فترة الإمام الصديق والسيد علي الميرغني أن تبحث عن طائفية “مودرن” (حديثة) لكن ما حصل عكس ذلك، في الطائفتين أصبح الرجل الأول هو المهيمن تماماً، وللأسف برضاء بعض المثقفين.. لو كان هناك أبداً هبة من تحت لكان الوضع مختلفاً، بل تعطيك الإحساس بأن هناك رغبة في خلق نظام لتوريث الحكم وليس فقط توريث الطائفة، بل توريث للحكم.

الأحزاب العقائدية أذت السودان كثيراً، ليس من الخطأ أن يكون عندك عقيدة سياسية، لكن العقيدة السياسية في السودان تحولت تماماً وأصبحت مثل العقيدة الدينية، رئيس الحزب هو (الفكي الأكبر بتاع الحزب)، دي مشكلة حقيقية وبالرغم من كل الفشل الذي حصل للأنظمة العقائدية في منشئها، سقوط الاتحاد السوفيتي وأوروبا الغربية وبعدها الشرقية والصين بطريقة مختلفة، الإصرار على أن نرجع لما قاله ماركس! أنا برجع لماركس في كثير حتى من الأفكار، لكن أنا لا أعبده، بل أتعامل معه كما أتعامل مع أي مفكر غربي لديه آراء في السياسة وغيرها.. وليس كـ(فكي)!!

ضاحكاً مرة أخرى (هل شطبت ليك حاجات كتيرة)؟؟
الخرطوم(كوش نيوز)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى